سأكون آخر من يموت على هذه الأرض


سوزان علي

– ماما لماذا كان يضربني والدي؟

لأنك كنت ترسمُ بالطباشير على تلك اللوحة في أثناءَ غيابه.

– وماذا كنتُ أرسم؟

– لا أعرف.

بهذه الكلمات بدأ “اللّون” يسرد قصة حياته، تلك التي تظن للوهلة الأولى أنها ليست قصًة حقيقيًّة، هي من صنع المخيلة، رواية، مسرحية، أو فيلم سينمائيّ؛ تناغمُ العبث والفوضى والألم في مقطوعةٍ موسيقيّةٍ خالدة، تُطرب المتلقي منذ بدايتها، تأخذهُ من يديه وتُريه؛ بل تجعلهُ يتلمّسُ جذر الألم المعتم.

الكتاب جاء بعنوان كافٍ ومختصر: (عمر حمدي- Malva)، صورةٌ لوجهه على الغلاف، حكايةٌ أخرى يرويها ذاك الصمت المطبق الأجفان.

(لم يكن صراعي يومًا مع الحياة، أو مع فنانٍ آخر… صراعي مع الإلهِ الذي في داخلي).

كلماتُ مقدمة الكتاب التي جاءت نسخًا بخطِّ يد عمر حمدي، في الورقة الأولى، يليها استعراضٌ بسيط لصوره الشخصية وصور عائلته، بعض لوحاته التي رسمها بين الحسكة ودمشق وفيينا.

يقعُ الكتابُ الصادرُ حديثًا عن دار التكوين في دمشق في 331 صفحة، من إعداد هناء داوود وعرفان حمدي، يلّخصُ لنا تاريخَ اللونِ المتعبِ المنفيِّ الحزينِ المكسورِ، لونٌ يميل نصفه صوب بيوت الطين، وشفرات الحلاقة التي رسم بها رعاةً وحصادين، والأغنيات الشاردة بين حقول القمح صيفًا؛ أمّا نصفه الآخر فيذوبُ مع صوتِ المنفى والعزلة وأضواء فيينا الباردة.

لونٌ شرقيّ الحزن، أصيل حارٌّ متفجر، يحمل كل هذا وينعكس مسترخيًا على أصابع عمر حمدي (مالفا)، قبل أن ينسكب فوق بياض اللوحة.

قصة حياته، حوارات أجريت معه في الصحف والمجلات، مقالات كَتبت عن وجع الريشة بين يديه! شخوصه القديمة الجديدة، الجداريّات الطويلة للطريق والغربة. خُصّص القسم الأخير من الكتاب لبعض القصائدِ التي كتبَها “اللونُ” بلغة الشِّعر.

قالَ له والده مرة:

“لن تكون سوى حمّالٍ في سوق الخُضرة”.

قرر بعدها أن يكون حمّالًا، ليس لشيء غير ألوانه، بعد أن حمّلته الطبيعة والوطن أوجاعًا ثقيلة. باع دراجتهُ، ثم صنعَ قفصًا خشبيًّا ووضعَ في داخله خمسًا وثلاثين لوحة: (مجموعة الحصاد)، وقفزَ إلى ظهر حافلة، متجهًا إلى دمشق؛ يحضنُ قفصهُ الخشبيّ ويرقبُ النجومَ، مع غرباء آخرين يحضنون أقفاص الدجاج، والحقائب، والأغنام.

وصلَ موحلًا منهكًا متعبًا إلى المركز الثقافي العربيّ في أبو رمانة. قالَ له مدير المركز آنذاك عفيف بهنسي: هذه مجزرة! وهو يرى اللوحات لأولّ مرة، طالبًا من عمر الرجوع في الغد كي يأخذ قبول أو رفض مجموعة حصاده.

جرى افتتاح المعرض في اليوم التالي، وكان الإهداء: “إلى والدتي التي حَمَّلتني كلَّ هذا العذاب“.

بيع من اللوحات اثنتين فقط، كانت قد اشترتهما وزارة الثقافة.

فكّرَ عمر بوالده الذي لا يريده أن يصبح رسامًا، تذكّرَ البئر ولوحاته المرميّة بداخلها، عندما قرأ “أرض الأم” وتشيخوف للمرة الأولى، ليرسم بعدها عدّة لوحات سمّاها (مالفا)، اسم الوردة التي ذكر اسمها تشيخوف في كتاب، وهي ذاتها الوردة الختميّة الدمشقيّة؛ ثم رمى بمجموعته (مالفا) في البئر خوفًا من أبيه… تذكّر الرسم على أكياس السكر، اللوح الأسود الذي أحضرهُ له والده كي يتعلّمَ الكتابة، ليجعل عمر من الطباشير أقلامَ تلوين.

طلبَ من سائقِ العربةِ أن يوصلَهُ إلى حيٍّ في دمشق تُرمى فيه النفايات، في زقاق الجن، حَرَق “اللونُ” ما تبقى من لوحاته في المعرض.! سنرى -فيما بعد- ذاك الحريق، في كلُّ ما ستخطُّهُ ريشتُهُ فوق اللوحة، داخل عينيه، فوق طبقاتٍ من الألوان، بجوار الألوان الباردة البيضاء، بجوار الصمت والفراغ والبرد، حريق يضئُ لنا المشهدَ كاملًا، نشمُّ بقوة رائحةَ النار التي أكلت كل اللوحات، في يومٍ مضى، في زقاقٍ جاءَ اسمه بالصُّدفة هكذا: زقاق الجن…

عمر حمدي حمّالُ دمعه ولونه وألمه، ينقل لوحاته وريشاته العزيزة على قلبه، من مكانٍ إلى آخر، وهو: “الكسول في كل شيءٍ عدا الرسم”، كما يصف نفسه.

وأنا اقرأ ذلك السرد لسيرة “اللون”، تعبتُ وتألّمتُ وكنت أختبئ؛ تارة وراء زجاج بيته المكسور، محاولةً أن أبدّل النهاية والمصير، أن أشوشَ على الحدث وألهيهِ عن السير قليلًا.

هربتُ -أيضًا- كما فعل “مارتين شفاب” الصحافيُّ الألمانيُّ في أثناء تسجيله ومتابعته سردَ “اللونِ” لحياته كلِّها عام 2004 وقرّر الهروب أمام بكاء عمر حمدي فجأة وهو يتذكّر:

“-لماذا ينامُ عمر هنا؟

يبدو أنَّه تعبَ من العمل فنام …سيّدي.

فتحتُ عينيَّ وصرختُ: لا …. وأنا لا أبكي، ليس لدي مكان آخر أنام فيه سيّدي”

لكن اللونَ قاطعَ هروبَنا معًا؛ أنا القارئةُ وسطَ السطور، والصحافيّ الألمانيّ قبالَتَه، ليقول لكلينا وللعالم:

“لا تهرب، إذا أردتَ أن تكتبَ عن الفنِّ، عليكَ أن تعرفَ ما وراء اللون، عليكَ أن تعرفَ قصةَ هذا اللون”

في وقت الظهيرة، وبعد الانتهاء من المدرسة، عملَ في الطرقات، بائعَ بوظة أو كعك أو في مطعم: “أعودُ في المساء ومعي ليرتان أو ثلاث، تشتري بهما والدتي -كلَّ صباحٍ- لبنًا وشايًا وخبزًا لإفطارنا”. وعند انتقاله إلى مدرسة تأهيل المعلمين، اشتغلَ “اللونُ” في دارٍ للسينما؛ كخطّاط ورسامٍ وقاطعَ تذاكرٍ وكنّاسٍ. وهناكَ: “تعلّمتُ الرسمَ على الأحجام الكبيرة، في تكبير مُلصقات أفلام السينما، وتعلّمتُ البكاء أكثر وأنا أكنسُ تحت المقاعد بعد انتهاء الفيلم”.

انتظرَ -طويلًا- أن يُدرجَ اسمَهُ ضمن قائمة التعيينات في نهاية دراسته، إلاّ أنّه كان ثمة عشرةُ أسماءٍ أخرى، تمّ رفضها لضروراتٍ أمنيّةٍ مريضةٍ وصفراء وقاتلة!!

بكى عمر كثيرًا لبكاء أمِّه نورا. “دعني أسافر معك” صرخت الأم صراخها المؤجل، وهي تركضُ وراء سيارة عسكريّة مكشوفة، أخذت اللون بعيدًا كي يخدُمَ وطنه؛ أو ما يُسمّى (الخدمة الإلزاميّة)، وكما خدمه وطنه -يوم نام في فندق وسط ساحة المرجة، فوق إسفنجةٍ عفنة، ولم يكن يملكُ أجرةَ غرفةٍ- خدَمَ وطنه وحَضنَهُ بين ذراعيه عندما أكل سندويشة فلافل وتابع نومه على مقعد الحديقة.

في أثناء خدمة الوطن الإلزاميّة رسمَ بالفحمِ نساء عارياتٍ فوق فراغ سريره الحديديّ، ليعملَ بعدَئذ –مدنيًا في مجلة الفرسان- بصفة مصمّم ورسّام.

“كنت أكتب شعرًا وهذيانًا، كنتُ قريبًا أحلمُ بقدومِ الموت، بدلًا من الانتظار اليائس لخلاصي، من عملي في الخدمة العسكريّة… كنتُ أحلمُ بالتفرُّغ للرسم مثل أصدقائي، عمر كيّالي ووحيد مغاربة، أو مثل الذين يسافرون في بعثاتٍ إلى أوروبا لدراسة الفنِّ. كنت أحلم بالسفر إلى أيّ مكان يُبعدني عن أيِّ شيء.

“انظرْ إلى هذا العالم الملتهب… لم تبك الأرضُ دمًا مثل اليوم. انظر إليَّ كيفَ متُّ أكثرَ من مرةٍ، لماذا؟ الحياة مهزلةٌ كبيرةٌ تُشبه أفلامَ الكرتون، كلُّ شيءٍ قابلٌ فيها إلاَّ الحقيقة..”

اللون (آخر الملوِّنين في عصره)، كما يقول عن نفسه، تنفس قليلًا وراح يروي لنا القليل من وجعه، رواية نازفة، كم تُشبهكِ يا سورية؛ سورية التي عاشها في المنفى حقلًا، حكايًة خرافيًّة، جرحًا، وسياطًا، وشمسًا، وغبارًا… لم يُجرِ عمر حمدي أيّ حوار إلّا تذكرَ “فضلَ لونك القاسي يا سوريّة” على لوحاته كلّها:

أنا قادمٌ من سوريّة وجذوري ممتدةٌ في الضوء سأكونُ آخر من يموتَ على هذه الأرض

سورية: وجعُ ظهره وهو يكنس مقاعد السينما، الخللٌ في فقراته القطنيّة، بكاؤهُ الطويلُ على باب المُدرسّين، وهو يطالبهم بأن يُعيدوا له تلك اللوحة:

“كانت اللوحة لوالدتي وهي تعجنُ بيدين مكسورتين بسبب ضرب الوالد لها… كان يرميها بأيّ شيءٍ يقعُ تحت يديه”.

كم من مرةٍ تفتّحتْ تلك اللقطات يا سورية في ضربات الريشة الأخيرة؛ لتُشعَّ مفارقات ذاك الماضي، لنذوقَ طعمَ الدمع ونحنُ عائدون مع عمر، من حقول القطن في إحدى ليالي الصيف. أمّا في أُخوّةِ اللون البارد مع الحارّ، في الانتقال المدهش إلى الوجوه القاسية؛ حيث تنعكس في النظرة تجاعيد تُرتسم على وجوهنا. كنتُ لا أقرأ سوى هذه القصة:

“كنا لا نأكلُ سوى روائحِ الطَّهي القادمة من بيوت الجيران. لم نكنْ نعرفُ ما هي الفاكهة إلاّ من أشكالها في سوقِ المدينة. مرًّة سرقتُ في الظهيرة “بطيخة” صغيرة من أحد الحقول البعيدة عنّا، لكن الحارس انتبه إلى ذلك، وظلّ يركضُ ورائي حتّى البيت، وحينَ كسرت البطيخة بقبضة يدي وجدتها بيضاء”.

كيف يسحق اللون بعضَه، ثمَّ يتناسل عبرَ فوضى الغربة وشجرة الذكريات، يشرب من حليب الماضي، وينام على وقع الأغنيات ذاتها التي كانت تردّدُها الفلاحات، ثم يولد لون آخر في زاوية ما، يظهر العزلة وصقيع فيينا؛ يظهرُ الغربةُ كضيفٍ ثقيلٍ.

في إحدى الحوارات يُجيبُ اللون عن هذا كلّهِ:

– “كيف بقيتَ محافظًا على ثقافة الشرق في أعمالك؟”

– “لم تكن مصادفة حين اختارَ التاريخُ مكانَه في سورية، ولم تكن مصادفة حين كُتِبت الأبجديّة على قطع الطين المشوية، ولم تكن الحضارة آنذاك تعرفُ بأنّ بقايا الحجر والتماثيل هي أحدثُ لغةٍ في الفنّ المعاصر”

لولا الحوارات والآراء والمقالات واللوحات والصور التي حملَها الكتابُ بين صفحاته، لم أكن لأصدّق أنّي داخل كتاب، بل كُنتُ أرى كل شيءٍ بأمِّ عينيّ، كنتُ مع “اللون” عندما أِكلَ الخبز هاربًا في قوارب الصيّد إلى اليونان؛ ومنها إلى فيينا، خائفًة أن أتأمّلَ النُّجوم معه، كنتُ برفقته تحت جسور فيينا، فقيرًا مشردًّا. كنتُ داخلَ رواية عن الألم الإنسانيِّ الحقيقيِّ الصادقِ النازف لدرجةٍ تشعرُ أنها مُتخيَّلة، مكتوبة عن عمدٍ، بأصابعِ روائيٍّ يُتقنُ تصعيد عواطفنا حتى أوجِها دون أن يطمئنَّ ولو لثانيةٍ على ذاك الحيوان الأليف الهادئ في داخلنا، الذي لطالما تعوَّد على نهايةٍ سعيدةٍ.

في الفصل الأخير من الكتاب، نقرأ بعض ما تركته لنا بصيرةُ عمر حمدي، من قصائد رسمَها مرّاتٍ ومرّات في لوحاته، وكان الشعرُ بين أصابعه لوحةً أخرى ليس إلا:

“ملامحي مثل هذا الوجع المتراكم في شرايين قاسيون

ملامحي تستفيق في خدر الجبل الكئيب

تتساقط ذكرياتي عاريةً مثل شجرةٍ خسرت ظلّها

حنونًا -كالندى المعلَق

على الأعشاب النابتة على سطوح قريتنا،

كالفطر على حواف الطرقات-

أمد يدي إلى زبد البحر، أرسم وجهك

دموعك في شفتيّ مثل طعم الخبز

رائحتك مثل رائحة الأرض اليابسة بعد المطر

أقبل جبينك

أشم رائحة يدك

أتنفس أنفاسك

وأحس بأنني أريدك حتى الموت”.

صورةٌ للوحة نورا والدته، لوحات أخرى تصوّر المأساة السوريّة، تليها صفحةٌ كتبَها عرفان حمدي بخطّ يده مُؤرِخةً بـ (18 /تشرين الأول/ 2015) رحيلَ اللون عنَا….

لم أقلْ في نفسي غير شيءٍ واحدٍ فقط، وكما أثقُ باللّون الذي وَضَعَتْه الدُّروبُ الموحلة بين يديكَ يا عمر، أثقُ بأنكَ سمعت صرختي العميقة: كيف استطعتَ الموتَ بعد كلِّ تلك اللقطات؟!




المصدر