إرهابيّون يحاربون إرهابيّين
29 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016
إبراهيم قعدوني
في المقابلة التي أجرتها معه صحيفة “التايم” الأميركية، أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي من هذا العام، تحدّث دونالد ترامب، الرئيس الأميركي المُنتَخَب، بِجُمَلَ مبتورة، لم تختلف عمّا كان قد أورده في سياق حملته الانتخابية التي تُوّجَت بوصوله إلى سُدّة المكتب البيضاوي؛ ليصبح رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية، أبرز الفاعلين على الساحة السياسية الدوليّة.
تناول ترامب حزمة من الملفّات والموضوعات التي سأله عنها الفريق الصحافيّ الذي أجرى المقابلة، بدءًا بإيمانه بعَظَمَة أميركا (العقيدة التي يتشاركها الرؤساء الأميركيون عبر التاريخ)، مرورًا بتأكيده على المضيّ قُدُمًا في ضبط الحدود وإقامة الجدار العازل، ورأيه في باراك أوباما، وصولًا إلى انتقاده اللاذع لسياسة الاتحاد الأوروبي في استقبال ملايين اللاجئين، وخصّه ألمانيا -على وجه التحديد- بالقدر الأكبر من الانتقاد.
غيرَ أنّ النقطة الأبرز التي ربّما تستدعي التوقّف عندها، تجلّت في الحماسة التي أظهرها ترامب في معرض حديثه عن العلاقة مع روسيا، إذ إنّه أكّد -أوّلًا- ثقته في أنّ الرّوس لم يتدخّلوا في الانتخابات الأميركية، واصفًا المسألة بالمُضحِكة، وثانيًا، وهو الأهم، فقد أكّد ترامب إيمانه بأنّ روسيا يمكن أن تكون شريكًا مفيدًا في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وأنّ شراكةً كهذه، بإمكانها أن توفّرَ للولايات المتحدة الأميركية كثيرًا من الأموال والأرواح، فهم، أي: الرّوس، كما يقول ترامب، أذكياء وأكفياء بالقدر الكافي لهزيمة (داعش). ليس روسيا فحسب، بل الصّين أيضًا، يمكن أن تكون شريكًا في الحرب على (داعش)، كما يتصوّرها ترامب.
لم يعُد بالإمكان النظر إلى تصريحات ترامب على أنّها شعاراتٌ انتخابيةٌ، وبالتالي؛ التقليل من شأنِ جدّيّتها، يبدو واضحًا أنّ الرجلَ مفتونٌ بالبوتينيّة، بوصفها نظامَ حُكمٍ للرجل الواحد، وبفلاديمير بوتين رئيسًا يفعل ما يشاء، بصرف النّظر عن الآخرين ومواقفهم، وبالطبع، بصرف النّظر عن تكلفة سياساته وتبِعاتها. وإذا كان لنا أن نقرأ هذه التصريحات على أنّها تأتي في سياق الانكفاء الأميركي نحو الدّاخل، السياسة التي دشّنَتها الأوباميّة منذ عهدها الأوّل، مؤثرةً مبدأ القيادة من الخلف، والتي يبدو بأنّ لدى ترامب نسخته الخاصّة منها أيضًا، إلاّ أنّ قراءتنا -هذه- تبقى غير مستوفاة ما لم تسلّط الضوء على بالغ التناقض الذي يحكُمُ الرؤية الترامبيّة تلك، وكارثيّتها على الصّعيد الدوليّ والإقليمي عمومًا، وعلى الوضع السوريّ على وجه التحديد.
غيرَ أنّ أسئلةً كثيرةً تطرح نفسها في سياقٍ كهذا، فهل بالإمكان محاربةُ الإرهاب بالبلطجة؟ وهل في تجربة روسيا في سورية خلال العام الفائت ما يدعمُ فرضيةَ ترامب في إمكانية أن يُثمر التعاون معها إلى تقويضِ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وبالتالي؛ دحره؟ وكيفَ يفهم ترامب، ومن ورائه مستشاروه، كلّ ذلك الإرهاب الروسي الذي وقع على المدنيين السوريين منذ قرّرت روسيا الدخول بثقلِها؛ لمنع سقوط النظام السوري الذي يقتل شعبه منذ ما يزيد على نصف عقد، وبذريعة محاربة الإرهاب؟ وكيفَ ينظُرُ هؤلاء إلى حقيقة أنّ الطائرات الروسيّة لم تأتِ لضربِ (داعش)، إنّما جاءت لتكون غطاءً جويًّا لميليشيات طائفيّة تموّلها طهران، وتمدّها بأسباب القوّة؛ لممارسة التطهير الطائفي والعبث الديموغرافي في سورية؟
لا يبدو أنّ ترامب وإدارته معنيّان بالنّظر إلى التاريخ، ليس التاريخ القديم الذي في بطونِ الكتب والمخطوطات التي على رفوف المكتبات، بل التاريخ القريب، الذي مازال بمقدورنا تناول تفاصيله بجُهدٍ بسيط، وإذا ما كان ترامب يبحثُ عن شركاء “أكفياء وأذكياء” في استهداف الأسواق والمستشفيات، فلا شكّ في أنّه وجد ضالّته في الروس الذين أودت حملتهم الجويّة، التي بدأت في وقتٍ سابق من هذا العام، إلى إزهاق أرواح 3600 من المدنيين على أقلّ تقدير، كما يقول كريس وودز، مدير مركز Airwars، ومقرّه لندن. وبحسب “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، في كانون الثاني -وحده- من العام الجاري، قَتَلت الطائرات الروسية 679 مدنيًّا، بينهم 94 طفلًا و73 امرأة، وهي أرقامٌ تجاوزت حتّى ضحايا الغارات العشوائية التي شنّتها طائرات النظام السوريّ! هؤلاء شركاء بوتين الذين يبشِّرُ العالم بهم. اللّافت في الأمر أنّ عدد الضحايا المدنيين الذين سقطوا على يدِ تنظيم داعش في الشّهر نفسه كان قريبًا جدًّا من عدد الضحايا الذين قَتلهم الروس!
لا أحسب أنّ الأميركيين يجهلون حقيقة أنّ الرّوس ليسوا حديثي العهد في قتل المدنيين عبر تاريخ حروبهم، وبطبيعة الحال ليس اتّهام الرّوس بصكّ براءة للأميركيين، فالشيء بالشيء يذكَر. إلاّ أننا نتحدّث هنا عن روسيا، التي يسوّق لها ترامب بوصفها شريكًا في محاربة الإرهاب، إذ يُخبِرنا التاريخ القريب بأنّ لدى الروس تقليدٌ راسخٌ في تدمير المدن وسحق المدنيين، فبعد أن تلاشت أحلام القضاء على المقاومة الشيشانية “في غضون ساعات”، كما سرت المزاعم وقتئذٍ، جنّ جنون الآلة العسكرية الروسية، كان ذلك في عهد بوريس يلتسين الذي سبق عهد فلاديمير بوتين، بدأت الطائرات والمدافع الروسية حملةَ تدمير العاصمة الشيشانية “على المخططّ” وقصفتها مربّعًا مربّعًا حتى أحالتها ركامًا لتحتلّها في السابع من آذار/ مارس 1995 مخلّفةً ما يزيد عن 27000 ضحيّة من المدنيين الشيشان.
بعد مضي أكثر من عشر سنوات على اقتحام غروزني من القوات الروسية، أقدَمَ مسلّحون شيشانيّون على احتجاز رهائن في مدرسةٍ تقع في بيسلان، في أوسيتيا الشمالية، هذه المرّة كان الرئيس هو فلاديمير بوتين، وكان الحلّ بوتينيًّا صرفًا، أرسلت روسيا دباباتها وأسلحتها الثقيلة واقتحمت المدرسة بعد حصار استمرّ ثلاثة أيّام، استمرّت العملية نحو ساعتين، هُدِمَ سقفُ المدرسة على من فيها واشتعلت النيران، ولم يسمح قائد العملية بإخمادها؛ ما أسفر عن مقتل 332 شخصًا، بينهم 186 من أطفال المدرسة المحاصرين.
لا ننسى أيضًا ما فعلته روسيا في أزمة احتجاز رهائن في مسرح موسكو عام 2002، فبعد يومين ونصف من حصار المسرح، أطلقت القوات الروسية غازًا سامًّا في فتحات التهوية في المسرح، ثمّ اقتحمته لِتَقتُلَ 39 من المهاجمين، وما لا يقل عن 129 من الرهائن (من بينهم 9 أجانب)، قضى معظمهم بفعل المادة السامة.
هكذا يتعاملُ حكّام موسكو مع البشر، لا فرقَ بين خاطفٍ وبين رهينة، ولا بين عسكريّ ومدنيّ، الجميع أهداف مشروعة لقوّة عمياء لا ترى سوى ما تتمنّى أن تراه: خصومٌ يائسون ومدنَ أشباح، تلك هي بيئة التفاوض المثاليّة “للفتوّة” الروسية الجامحة، الفتوّة التي هدّدت أوروبا بهجومٍ نوويّ بعد أزمة أوكرانيا. ربّما يروق ذلك كثيرًا لترامب، يطيبُ لرجل الأعمال أن يحصل على “بودي غارد” منفلِت من أيّ ضوابط أخلاقية، ولا يجد من يردعه بوصفه مارقًا وخارجًا عن القوانين والقيم التي لم تعد تجد من يحميها، فإذا كانت بعض التقاليد المؤسساتية الأميركية تحول -وإِنْ بلاغيًّا فَحَسب- دون أن يفعل ترامب ما يشتهي بذريعة محاربة الإرهاب، فلا شكّ في أنّه سيعوّض حرمانه من خلال متابعة بوتين، وهو يستأثر بالغَلَبة عبر البلطَجة، وكأنّه يلبّي تطلّعات ترامب في محاربة الإرهاب بالإرهاب، تلكَ حلقةٌ مفْرغة، لكنّ ذلك لا يبدو أنّه يؤرّق صانع السياسة الأميركي.
يقول فلاديمير بوتين بأنّه جاء إلى سورية في حربٍ استباقيةٍ على الإرهاب الذي ينوي استهداف موسكو، مع ذلك؛ فإنّ تقاريرَ روسيّة المنشأ تشير إلى أنّ حكومة موسكو لا تفعل شيئًا جدّيًا لآلاف المقاتلين الذين يلتحقون بتنظيم الدولة (داعش) من أراضي الاتحاد الروسي، وعلى سبيل المثال، فقد التحق ما يقارب 2 بالمئة من أبناء قرية نوفوساسيتيلي الداغستانية بتنظيمات إرهابية في سورية، لا نحسبُ مخابرات بوتين غافلةً أو عاجزةً عن رصدِ أو إيقاف ظاهرةٍ كهذه، فيما لو شاءت طبعًا.
إذا ما ترجم ترامب أقواله أفعالًا، فمعنى ذلك أنّ فلاديمير بوتين لن يجد من يردعه، على العكس، سوف يجدُ من يصفّقُ لهُ سرًّا أو علانيةً، لا فرق. يعني ذلك أيضًا، أنّ العالم سيصبح أسوأ، إذ نرى إرهابيين يحاربون إرهابيين آخرين، ولربّما سنفتقد دراما الفيتو الروسي – الصيني المزدوج في قراراتٍ تتعلّق بسورية مثلًا، ومن يدري، لربّما نرى أميركا الترامبية تمتنع عن التصويت مؤثِرَةً تسهيل أعمال البودي غارد الجديد في الشرق الأوسط، ريثما تسكتمل رفع جدرانها العازلة.
لن نشاهد فيتوهات روسية – صينية مشتركة ضدّ قرارات أميركية – أوروبية، لربّما نرى أوروبا الوحيدة ترفع يدها في حيرةٍ وذهول.
[sociallocker] [/sociallocker]