الأوبرا القاتلة (نابوكو)


سعاد الخطيب

أطلق الأميركيون اسم “نابوكو” على مشروع القناطر الكونية (عام2002) الذي كان الهدف الرئيس منه، ربط احتياطات الغاز في آسيا الوسطى بأوروبا، من خلال خط أنابيب يعبر بحر قزوين إلى أذربيجان ثم تركيا، من دون المرور بالأراضي الروسية؛ لتكون محطته الأخيرة في النمسا.

” نابوكو” اسم مُستلهَمٌ من أوبرا “نابوكو” للموسيقار الشهير، جوزيبي فيردي، الذي عاش من ‏1813 إلى 1901.

يُعدّ هذا المشروع خريطة طريق جديدة؛ للسيطرة على منابع الطاقة في العالم.

الفصل الأول من “نابوكو”

روسيا جعلت “نابوكو” يُولد ميتًا، بعد أن جففت كل المصادر المحتملة لأي شكل من أشكال هذا المشروع، وذلك من خلال إثارة نزاع الملكية القانونية حول بحر قزوين، وشراء الغاز المُنتج في أواسط آسيا كله، وبالتالي؛ احتكار بيعه عن طريقها، وعبر أنابيبها العابرة للقارات.

الفصل الثاني من “نابوكو” (2009)

توقع أميركا وحلفاؤها اتفاقًا شديد الغرابة، يقلب جميع الموازيين والقواعد الاقتصادية الكلية، إذ جرى التوقيع على اتفاقية تقضي إلى بناء خط الأنابيب، ثم البحث عن الغاز لاحقًا.

الفصل الثالث من”نابوكو” نهاية عام (2016)

يصادق البنك الدولي على إقراض مشروع خط أنابيب الغاز الطبيعي العابر للأناضول “تاناب”؛ لنقل الغاز الطبيعي من أذربيجان إلى السوق الأوروبية، عبر تركيا، مبلغًا قدره 800 مليون دولار مرحلةً أولى. تسرب الخبر من غير ضجة إعلامية؛ بينما العالم كله منشغٌل بالحرب على الأراضي السورية.

“تاناب” خطوٌة جريئة، دفعت بمشروع “نابوكو” إلى الواجهة من جديد، هل ستستكمل أميركا وحلفاؤها مشروع القناطر الكونية بدءًا من الآن؟ هل أُنهكت روسيا بما فيه الكفاية في الحرب السورية، أم أن لدى روسيا مزيدًا من الأسلحة الاستراتيجية الفتاكة، والتحالفات الدولية الداعمة، لتطيح المشروع.

ما يُجيب عن التساؤلات السابقة هو الفصل الرابع من أوبرا نابوكو!

الإجابات لن تكون بنعومة الموسيقا ورهافتها، بل سيكون لها مظهر متوحش يأخذ شكل نزاعات وحروب دامية؛ إذ ستتمادى قوى العالم العظمى في إقصاء الشعوب الفقيرة، وتهميشها وإبادتها، كما فعلت في العراق وسورية.

أوبرا “نابوكو”، تلك الموسيقا التي ستسمم أذنيك وذائقتك لبعض الوقت، لن تقوى على سماعها بمعزل عن سياقها التاريخي، فماذا يعني ربط هذه التسمية بالقوى المهيمنة عمومًا وبمشروع الغاز على وجه الخصوص؟

حين سماع هذه الأوبرا، سيبدو لك المبدع، فيردي، مراسلَ حرب وشاهد عيان على قصص التوراة التي تسرد جزءًا من تاريخ العبرانيين، خلال فترة حكم الملك “نابوكو الثاني” وهو “نبوخذ نصّر” نفسه، ملك بابل (العراق الآن)، وتدور الأحداث في الفترة الزمنية الواقعة بين 605 و562 ق.م.

فيردي يعزف بأدواته الناعمة، وينقل لنا وقائع انهيار مملكة أورشليم على يد البابليين، تصدح الأوبرا بشجن اليهود المعذبين، المشتتين بعيدًا عن ديارهم، لكن العزاء والرجاء يكمن في النهاية، حيث يختم فيردي تحفته بفيض من مشاعر الندم التي تصيب الملك نبوخذ نصر (نابوكو) الذي يدعو الجميع -وهو في مقدمتهم- إلى السجود لإله العبرانيين.

التسمية -هنا- ذات معيار مزدوج، فمن ناحيٍة، ترسّخ قطبَ القوة المادية الذي يُنشئ الكيان السياسي والعسكري، ومن ناحية أخرى، تعرض منتوجات القوى الأخرى، بوصفها جزءًا من الإرث الإنساني، الموصوف بالإبداع والعلم والفن والعمارة… إلخ.

المروحية المقاتلة “أباتشي” التي اختُبرت جودتها في اللحم البشري في أفغانستان والعراق، حملت اسم ضحيتها الموغلة في القدم، إنها قبيلة من الهنود الحمر الذين أبادتهم أميركا. استحضار التسمية من خلال منتج عسكري له بعد استراتيجي، أو استحضار أوبرا “نابوكو” من خلال مشروع الطاقة، يعيدنا إلى الخطاب الجيوسياسي الأميركي، ومفاده أن أميركا تقهر الجغرافيا، وتروضها كما تُروَض النمور.

لا بد هنا أن نتوقف عند ما تعنيه حضارة العنف، باستعراض التاريخ بوصفه سلسلة من أفلام هوليودية، الاستعراض المتواصل لقصص التفوق، وأي تفوق!!ٍ تفوق مجموعة من البشر المغامرين أبادوا السكان الأصليين، واستعمروا أرضهم. لا بد لحضارات كهذه من أن تحاول الاعتلاء ما فوق أصولها الهمجية، والانفكاك من حقيقة أركولوجيتها، مهما كلف الثمن، أقصد الثمن الذي يُدفع من دم الشعوب المهمّشة الفقيرة، هذا ما تفعله أميركا وصنوها إسرائيل.




المصدر