دور روسيا إذ يتعاظم على حساب إيران والأسد
29 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016
الحياة
ثلاث دول، روسيا وإيران وتركيا، تحاول الآن بناء حل سياسي في سورية، لكن أدوارها في مختلف مراحل الصراع تطرح السؤال عن مدى أهليتها لهذه المهمة، التي تتطلّب حدًّا أدنى من إظهار الحسّ بالمسؤولية، طالما أن ميزتَي «الحيـاد» و«الموضـوعيـة» مفــقــودتـان. فروسيا وإيران أخذتا دائمًا جانب النظام، كلّ منهما بطريقته، ومعهما إسرائيل، أما تركيا فوقفت مع المعارضة وانخدعت كما انخدعت المعارضة بالموقف الأميركي الذي تبيّن أنه كان دائمًا أقرب إلى مواقف روسيا وإيران وإسرائيل.
لم تعترف موسكو يومًا بالجرائم والانتهاكات التي ارتكبها النظام السوري منذ عقود وليس فقط منذ بداية الأزمة، بل اعتبرت أن إدانته ومحاسبته دوليًا قد تمهّدان لاحقًا لإدانتها هي نفسها. وقبل تدخّلها المباشر وبعده، وقفت روسيا ضد الشعب السوري وتجاهلت حقوقه وطموحاته، وبما أنها لم ترَ أو لم تشأ أن ترى أن النظام هو مَن عسكر ثورة ومَن دفع معظم أفراد جيشه إلى الانشقاق ومَن تشارك مع إيران في هندسة دخول «جماعات الإرهاب» وإدارتها، فقد اكتفت برؤية المعادلة العسكرية كما ارتسمت على الأرض واهتمّت بتغيير موازين القوى لمصلحة النظام، ولو بالاعتماد على الميليشيات الموالية لإيران وأجندتها.
تبادل فلاديمير بوتين وبشار الأسد وحسن روحاني التهاني بعد انتهاء عملية حلب، وكلٌّ منهم يفكّر في ما بعدها. بوتين انتصر في معركة لم يواجه فيها أي عدو، بل أغارت طائراته على المدنيين وملاجئهم ومستشفياتهم ومدارسهم وأسواقهم ومخابزهم، لكنه اغتنمها لتجريب عشرات الأنواع من أسلحته الجديدة. روحاني انتصر في معركة لا يعرف عنها الكثير لأن غريمه الداخلي والخارجي الأول، «الحرس الثوري»، هو مَن خاضها بواسطة ميليشياته، لكنه سمع بالتأكيد قائد «الحرس» وهو يقول أن «الثورة الإسلامية الإيرانية استطاعت أن تهزم أعداءها من خلال معركة حلب التي أصبحت خط الدفاع الأول عن الثورة».
أما الأسد فذهب به هوسه إلى تصوير نفسه صانعًا للتاريخ ولما بعده في حلب، لكنه منذ تلك اللحظة لا يعرف إلى أين سيقوده هذا النصر. ولا شك في أن انتصار فاشية الدولة العظمى وطائفية إيران وديكتاتورية الأسد لا يشكّل صيغة طبيعية لتعايش هادئ ودائم بين أطرافها، ولا بدّ من أن أحدها سيفرض سلطته منذ الآن. فكما احتاجت روسيا إلى ميليشيات إيران كقوات برّية تسند عملها الجوي في حلب، كذلك احتاجت إلى تركيا وقنواتها مع الفصائل لتأمين إجلاء مدنيي حلب ومقاتليها، وفي مقابل امتنان روسيا لتركيا بلغ استياؤها من الإيرانيين حدّ التصويت في مجلس الأمن مع نشر مراقبين دوليين لعمليات الإجلاء.
غداة الانتهاء من عملية حلب، وعلى رغم اغتيال السفير الروسي في أنقرة، دعت موسكو إلى اجتماعين ثلاثيين، سياسي وعسكري، لكن أول مَن تحدّث عن «إعلان موسكو» كان وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، وأهم ما فيه اتفاق روسيا وإيران وتركيا على ضمان توجّهات مبدئية ثلاثة: وقف شامل لإطلاق النار، واتفاق سياسي بين النظام والمعارضة، ومحاربة «جماعية» لتنظيمي «داعش» و»فتح الشام/ النصرة»… ما هي حسابات الربح والخسارة في الدفع بهذا الاتجاه؟ موسكو أبلغت واشنطن بما اتفق عليه، علمًا أنه سيكون شأن الإدارة المقبلة. وقبل ذلك، زار مبعوثون روس طهران للبحث في الخيارات المطروحة من دون أن يعني ذلك ارتياحًا لدى الجانب الإيراني الذي يشعر منذ شهور بأن دوره في سورية آخذ في التراجع أمام الدور الروسي المتعاظم عسكريًا وإداريًا وسياسيًا، لكنه مضطرٌّ للتعامل مع الواقع الجديد. أما تركيا التي كادت تخسر كل أوراقها في سورية، باعتمادها على الولايات المتحدة، فتجد أن ما حصّلته بالتنسيق مع روسيا يعوّضها نسبيًا، سواء بمنحها فرصة التدخل البرّي لمحاربة «داعش» أو بالاعتراف بدور لها في المراحل المقبلة. ومع أن المواءمة بين أهدافها وبين رعايتها المعارضة السورية ستكون مربكة لها، إلا أنها تراهن على اقتناع روسيا بأن الحل في سورية يستلزم احترام توازنات داخلية وإقليمية ساهم الصراع في تظهيرها.
لا شك في أن تقارب روسيا وتركيا بدأ يقلق الأسد والإيرانيين ويتجاوز توقّعاتهم، فبعدما اعتقدوا طوال شهور أنهم يديرون أداء روسيا ويؤثّرون في خياراتها، باتوا الآن يشعرون بوطأة قراراتها لتحصين مكوثها الطويل في سورية وترتيب معالم المرحلة المقبلة. فبدءًا من «إعلان موسكو» وخريطة الطريق التي يقترحها، يمكن القول أن الحديث عن وقف النار والاتفاق السياسي لا يلائم التفكير السائد في دمشق وطهران، أو أنهما على الأقلّ كانتا تريدان أن يبقى في معزل عن أنقرة. أكثر من ذلك، جاءت إشارة الوزير التركي مولود جاويش أوغلو إلى ضرورة البحث في وجود المسلّحين الأجانب، لا سيما «حزب الله»، في مثابة إنذار مفاجئ للإيرانيين يتكامل مع الحديث عن مفاوضات في العاصمة الكازاخية أستانا. فعلى رغم أن معظم معارضي «منصة أستانا» مصنّفون مدجّنين لدى النظام أو موالين له، إلا أن البيان الختامي الذي توصلوا إليه في اجتماعاتهم السابقة (أواخر أيار/ مايو 2015) دعا إلى «تشكيل جبهة موحدة لمكافحة الإرهاب، وإعادة بناء الجيش السوري، وإخراج جميع المقاتلين الأجانب».
وتمثّل إعادة بناء الجيش أحد أبرز الأهداف التي يعمل عليها الروس منذ بداية تدخّلهم، بما في ذلك إعادة هيكلته، وقد فرضوا أخيرًا إنشاء الفيلقَين الرابع والخامس لاستيعاب التشكيلات الميليشياوية التي أسسها الإيرانيون وجعلوهما تحت مظلّة الجيش وعيّنوا لهما قائدين موثوق بهما لدى حميميم. وقد أدّت إعادة الاعتبار الروسية للجيش إلى شعور الإيرانيين بأن لا مستقبل لميليشياتهم في سورية من جهة، ومن جهة أخرى إلى تزايد حساسية ضباط النظام تجاه الإيرانيين عمومًا و «حزب الله» خصوصًا، الذين عاملوهم لفترة طويلة بفوقية وبطائفية فظّة. وفي الوقت نفسه، يرى الأسد والمحيطون به أن الهامش الذي تمتّعوا به للمناورة بين الروس والإيرانيين لا ينفكّ يتقلّص. وإذا كان هناك توجّه جدّي إلى وقف شامل لإطلاق النار وحل سياسي، فإن النظام قد يجد صعوبة في إحباطه على جاري عادته، تحديدًا لأن الروس في حاجة إليه طالما أنهم متوجّهون إلى وضع غير صراعي مع إدارة دونالد ترامب.
ماذا يعني اختيار العاصمة الكازاخية أستانا مكانًا لمفاوضات سورية مرتقبة؟ هو، أولًا، دليل على استحالة الحوار في أي مكان في سورية على رغم تشدّق النظام ورموزه بأنهم متمسّكون بـ «الحلّ السوري – السوري». وهو، ثانيًا، مؤشّر إلى رغبة روسية في عملية تحت سيطرتها وإشرافها الكاملين. وهو، أخيرًا، اعتماد أيٍّ من معارضات أستانا أو موسكو أو القاهرة أو حتى «معارضة حميميم» لتمثيل المعارضة، بل سيستعين الروس بالأتراك لإعادة صياغة وفد المعارضة ليضم ممثلين عن تلك المعارضات إضافة إلى أكراد «حزب الاتحاد الديموقراطي» الذين وقفوا دائمًا مع النظام.
أما لماذا أستانا، فإن روايات مختلفة تُجمع على أن فكرة اللقاء في العاصمة الكازخية جاءت من شخص مرتبط بعلاقات بزنسية مع القيادة في ذلك البلد، وأن موسكو شجّعت الفكرة لأنها تمكّنها من الظهور بمظهر «الحياد» وتتيح بديلًا من جنيف، ثم أن مضمونها وهدفها يلتزمان السقف السياسي الروسي. لذلك، شجّعتها أيضًا دمشق من قبيل الإكثار من المعارضات الذي يوازي عندها التقليل من شأن «الائتلاف» المعارض أو إضعاف مَن تسمّيها «معارضة الرياض».
وفيما ساهمت موسكو في ظاهرة تفريخ المعارضات، راحت بعدئذ تستغلّها للتشكيك في مدى التمثيل الذي يتمتّع به وفد «الهيئة العليا للمفاوضات» إلى جنيف، مستقويًا بضمّه ممثلين عن الفصائل المقاتلة، ويعتبر الروس أن هذا المعيار لم يعد ذا قيمة بعد معركة حلب. لكن إذا كانت المسارعة إلى الجانب السياسي ترمي إلى استثمار الحسم العسكري في حلب، فإن «الانتصار» لم يغيّر طبيعة الأزمة التي كانت ولا تزال مرتبطة بطموحات الشعب السوري. صحيح أن «إعلان موسكو» أكد العمل للحل السياسي وفقًا للقرار 2254، إلا أن موسكو تسعى إلى حكومة تعيّن معظم أعضائها وتمدّها بالصلاحيات وتعمل بالتنسيق معها، وهذا ما يحصل حاليًا بوجود الأسد.
(*) كاتب لبناني
[sociallocker] [/sociallocker]