منير شحود يكتب: في تحولات العلاقة بين سوريي الداخل والخارج


منير شحود

يشير النقاش المحتدم بين الناشطين والمثقفين السوريين منذ سنوات، آخره الجدل المتعلق بمعرض الرسام يوسف عبدلكي في دمشق، إلى افتراق واضح بين رؤيتين لما يحدث في الداخل السوري، مع العلم أن كثيرًا من ناشطي الخارج عبّروا عن دعمهم وتأييدهم لفاعليات الداخل في هذا النقاش، بينما اعترض آخرون على النشاط الثقافي والاجتماعي الذي يمارسه معارضون في الداخل، بدعوى أنها تخدم النظام.

كان الكاتب اللبناني يوسف بزي قد أطلق النقاش حول المعرض المذكور، من خلال مقال ورد فيه أنه “لا يمكن لعبدلكي تجاهل أثر معرضه بالمعنى السياسي: تهليل الموالين (والرماديين) لهذا الحدث، وتحفّظ المعارضين عليه”.

في أفضل الأحوال، يبدو عبدلكي قريبًا من سلوك “الذمية المهادنة والخانعة”، علاوة على الجملة الاستفزازية التي وردت في العنوان: “من أم الشهيد إلى عارية هانئة”، مشيرًا بذلك إلى وجود رسوم للجسد الأنثوي في المعرض، ما أثار زوبعةً من الردود المؤيدة والمعارضة، في الوقت الذي يحتاج فيه السوريون إلى مَن يساعدهم في الانتقال خطوة إلى الأمام على طريق التقاء المواقف.

في ردّها على الكاتب ومؤيديه، كتبت سلوى زكزك، الناشطة على صفحات الفيسبوك من الداخل: “نحنا بدنا نعيش رغم الموت والقتل والفقر وغياب كلشي، استكترتوا علينا طاقة ضو متل معرض لفنان أصيل وكتير مهم، ومنحب فنه وطول عمرو قريب من وجعنا… وإذا كان اقتراف الحياة تهمة خيانة فابعتولنا أوراق إدانة لنعترف بكل نزواتنا غير المسؤولة، اعتبارًا من بقائنا على قيد الحياة وحتى الإيمان بأننا نستحق الحياة…”.

وقال الكاتب المعتقل السابق، جمال سعيد، الموجود في الخارج: “هل يتكرم أبطال الفيسبوك بإعطاء السوري المقيم داخل سورية الحق في ألا تقتصر حياته على الجوع والبرد والموت ومكابدة الاعتقال؟ هل تتكرمون بالسماح له بأن يُنشد نشيده ويرسم لوحته ويشرب قهوته إذا استطاع إلى ذلك سبيلا؟”.

فيما كتب الباحث حسان عباس “… واليوم أرى أن معرضه في دمشق، بعيدًا عن كل ما يحكى عنه من خارجه -وقد يكون أقله صحيحًا وأكثره تجنّيًا- لا يخرج عن فعل المقاومة هذا (مقاومة الموت). فنّ يوسف عبد لكي، ومعرضه حيث يعيش، صوت مقهور يقول: أنا أحيا”.

وأشارت لينا عطفة في مقال منشور في صحيفة القدس العربي: “… يبدو أنّ البعث أحسن تدجيننا، مأخوذون بالنفاق والكذب وأحكام القيمة ورمي المواقف وصكوك الوطنية،…”.

في حين صرح يوسف عبدلكي نفسه لصحيفة (السفير) اللبنانية بالقول: “أما مسألة العرض في دمشق الآن، فإنها بقدر ما أفرحت الأصدقاء والمتابعين في دمشق كأنها نفحة أوكسجين تلامس الوجوه المرهقة بمناخ الموت؛ بقدر ما أثارت حفيظة بعض المهتمين بالسياسة في الخارج، لا أعرف كيف يفكرون! فبدل أن يشجعوا العاملين في الثقافة على أي مبادرة مستقلة، تثبت أن بلادنا وشعبنا قادران على الحياة رغم القتل والدمار والموت المحيق بنا جميعًا، تراهم يعاتبون ويتململون وكأنهم سيستريحون إذا ما أهلنا التراب على أجسادنا في حفر المقابر!”.

فمن أين بدأ افتراق المواقف بين ناشطي الداخل والخارج؟

منذ تشكيل المجلس الوطني في خريف 2011، قامت سياسته على سحب تمثيل الحراك الشعبي من الداخل إلى الخارج، مستغلًا صعوبات العمل في الداخل، وهي صعوبات حقيقية؛ ليكون له الوزن الأكبر في تمثيل الحراك، مستندًا إلى دعم إقليمي ودولي اعتقد أنه سيوصله إلى السلطة.

وهكذا خرج كثير من الناشطين والسياسيين خلال عام 2012، وبعضهم خرج عبر المنافذ الشرعية؛ إذ توافقت سياستا النظام والمجلس على إبعاد الناشطين والسياسيين، ما يسهل تخوين المعارضين من النظام، وتعزيز القوة التمثيلية للمجلس الوطني، وبالتالي؛ تُركت الساحة فارغةً ليملأها المتطرفون. وهكذا، عملت سياسة المجلس الوطني لقلب المعايير، وجعلت من السياسة الداخلية امتدادًا للسياسة الخارجية، بخلاف المنطق الذي يعدّ السياسة الخارجية انعكاسًا لمصالح الداخل وحاجاته، كما في أي بلد.

لم يتوقف الأمر عند دفع الناشطين إلى الهجرة، بل طال ذلك -أيضًا- الأماكن التي صارت ميدانًا للمعارك، فقد أشار أحد الأصدقاء إلى أن المسلّحين شجعوا الأهالي في المناطق الحدودية المحاذية لمدينة جسر الشغور على الهجرة إلى تركيا، بحجّة أنها فترة موقتة يعودون بعدئذ إلى بيوتهم بعد سقوط النظام، مثلما حدث -أيضًا- في حي جوبر الدمشقي، حيث روى بعض الأهالي أنّ جبهة النصرة طلبت منهم النزوح عن ديارهم لفترة محددة، ريثما يسقط النظام أيضًا!

يمكن موازنة ما سبق بما فعلته الجيوش العربية إبّان إنشاء دولة “إسرائيل” عام 1948، حيث طلبوا من الفلسطينيين النزوح موقتًا حتى يجري تحرير بلدهم، ومن ثم يعودون إلى بيوتهم؛ مازال الفلسطينيون في الشتات حتى الآن، وما زالت المفاتيح الصدئة لبيوتهم تذكِّرهم بذاك الأمل!

لم يكن بمقدور المثقفين والسياسيين السوريين، ممّن لم يرتبطوا بأجهزة السلطة على الأقل، التحول إلى مثقفين “عضويين” (بتعبير غرامشي)؛ بسبب الحاجز الذي حال بينهم وشعبهم؛ حاجز القمع لأكثر من جيل، علاوة على إرث تاريخي من الاغتراب. ولم يستطع كثير منهم التحوُّل إلى هذا النوع من المثقف بعد التحولات العاصفة منذ ربيع 2011، وبالطبع ليس بمقدورهم أن يكونوا ذلك في الخارج.

وبسبب استنقاع الحالة السورية لسنوات، تكرس نوع من الافتراق بين الناشطين الذين يدعمون مبادرات الداخل، وأولئك الذين يعدونها خدمةً للنظام، من دون أن يكون للذين في الخارج أي اقتراح ملموس لواقع أضحى لا يطاق، ويتطلب حلولًا مستعجلة، كما في موضوع المصالحات التي جرت في غير مدينة أو بلدة من ريف دمشق وغيرها، إذ تُعدّ في معظمها، مجرّد هُدن تحتاج إلى إعادة النظر في التسوية النهائية المنتظرة.

يترافق انكفاء دور الخارج في التأثير في الوضع الداخلي مع تفعيل كثير من النشاط والحوار في الداخل، لكن من دون ضمانات حقيقية، إذ ما زالت قوى الأمر الواقع هي من يضع التخوم متى شاءت. إنّ التمسّك بالحياة، ومعايشة الناس في حياتهم القاسية، واستغلال كل المُتاح من أجل أي عمل مستقل، هو -بحدّ ذاته- ضرب من المقاومة التي تستأهل الدعم والتفهُّم؛ حتى يتكامل جهدنا جميعًا، ولا يتبدّد.

المصدر: جيرون

منير شحود يكتب: في تحولات العلاقة بين سوريي الداخل والخارج على ميكروسيريا.
ميكروسيريا -


أخبار سوريا 
ميكرو سيريا