دمشق… حرب المياه من الجنرال ساراي إلى نظيره الأسد


علاء كيلاني

أربعة وثمانين عامًا بقيت مياه نبع الفيجة تتدفق إلى بيوت دمشق بانتظام، دون توقف، حتى العشر الأخير من كانون الأول/ ديسمبر الجاري؛ إذ تعرضت مرافق المشروع لضربة جوية دمرت القسم الأكبر منها، وحالت دون تدفق المياه عبر المسيل الرئيس، لتنحدر باتجاه نهر بردى، مجففة صنابير دمشق للمرة الأولى منذ إنشاء المشروع.

إن الموت عطشًا، بوصفه أسلوب إخضاع يحظر القانون الدولي استخدامه، يكشف الفصل الأخير من رواية خطِرة، يسرد إعلام النظام أحداثها على نحو مُغاير، لكنه يرى في المخفي منها، ورقة رابحة ضد خصوم يريد الأسد إخضاعهم دون خسائر.

تاريخيًا ارتبطت دمشق بمياه نبع الفيجة مع مطلع القرن الماضي، فقد كانت تشرب من مناهل موزعة داخل الأحياء، أمر بإسالة المياه إليها والي دمشق التركي، ناظم باشا، عام 1908، وبعد ثلاثة عشر عامًا تبنى لطفي الحفار، وصديقه فارس الخوري، فكرة مشروع شامل، يصل مياه النبع بصنابير البيوت عبر قساطل وأنابيب نظامية، توفر على الأهالي عناء تعبئة القوارير من المناهل، وحملها لمسافة قد تبدو طويلة في بعض الأحياء.

وفي عام 1932 أُنجز المشروع ودُشن بحضور زعماء دمشق وأعيانها، ومنذ ذلك الوقت، لم تتجرأ السياسة على إخضاع المياه لنفوذها، أو التضحية بها في صراعات مريرة، كانت البلاد قد شهدتها على يد دكتاتوريات انقلابية، اختطفت السلطة وأطاحت بين عامي 1949 و1963 بمفهومات الديمقراطية والحياة الدستورية وعطلت عمل صناديق الاقتراع.

برز لطفي الحفار في مقدمة الذين وقفوا في وجه تغول العسكريتارية السورية وصعودها إلى كراسي السلطة، وحين أدرك -بإحساسه الوطني- أن المؤسسة التي وقف ضد انخراط جنرالاتها في السياسة وشؤون الحكم، ستستمر بإنتاج أنماط أخرى، أكثر تطورًا، قد تحرق البلاد والعباد في آن معًا، كان عليه أن يستقيل من الحياة السياسية نهائيًا، وهكذا فعل.

بقي مشروع مياه نبع الفيجة، بمنأى عن الانقلابات والصراعات الحزبية والسياسية التي عاشتها سورية في النصف الثاني من القرن الماضي، لكن عطش دمشق اليوم، أعاد إلى ذاكرة الناس من جديد، صورة مشهد مماثل عانى منه أجدادهم عام 1925 أيام ثورتهم الشهيرة ضد الوجود الفرنسي، فعلى غرار الجنرال الأسد، أمر الجنرال موريس بول ساراي بقصف دمشق بالمدفعية والطائرات؛ ردًا على ثورتها، واستهدفت قواته الغوطة، بشطريها الشرقي والغربي، فألقت الطائرات حمولتها فوق البساتين، وأحرقت القرى بسكانها. لقد كان العقاب جماعيًا، وكانت الذريعة وجود حاضنة تقوم بإيواء الثوار وإخفائهم.

ومع اشتداد غبار المعارك، سنحت الفرصة لحاكم دمشق الفرنسي أن يواصل ضغطه، فهدد السكان، بإعلان نشره أفراد الجيش على أبواب الدوائر ومراكز الخدمة الحكومية، وقال: “إن لم تدفعوا التعويضات والغرامات التي فرضتها القيادة الفرنسية عليكم، فستُقطع مياه الفيجة عن المناهل؛ كي يموت السكان عطشًا”.

عطشت دمشق -أول مرة- أيام احتلال فرنسا للبلاد، واليوم تعطش ثانية، في مشهد يكشف الوجه الأسوأ للحرب التي كانت البلاد ضحية لها على مدار السنوات الخمس التي مضت.

وبخلاف تطمينات الحكومة، يُعبّر السكان عن مخاوفهم من وقوع كارثة، كما يقول المواطن، أحمد. ص، لم تُبدّدها الإجراءات الإغاثية الآنية. ومع ذلك؛ ليس من المستغرب أن يقتل النظام القتيل، ثم يسير في جنازته.

تحظّر المادة 54 الفقرة 2 من البروتوكول الأول الإضافي لاتفاقيات جنيف لعام 1949 “مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين، ومثالها المواد الغذائية، والمناطق الزراعية التي تنتجها، والمحاصيل والماشية ومرافق مياه الشرب وشبكاتها وأشغال الري، إذا تحدد القصد من ذلك في منعها عن السكان المدنيين أو الخصم، لقيمتها الحيوية، مهما كان الباعث، سواء كان بقصد تجويع المدنيين، أم لحملهم على النزوح، أم لأي باعث آخر”.

وخلال العقود الأخيرة، عانى سكان دمشق من قلة مياه الشرب الواصلة إلى خزانات بيوتهم، بسبب ساعات التقنين الطويلة، والاستهلاك الذي تزايد عقب ازدياد نسبة هجرة سكان الأرياف، وضم مناطق متاخمة لحدودها الإدارية دون تخطيط، مع مجيء البعث إلى السلطة.

تشير معلومات حكومية، إلى افتقار ريف العاصمة لمصدر مياه رئيس يمكن الاعتماد عليه، وطبقًا للمصدر ذاته: تتغذى المناطق المحيطة بالمدينة من خطوط ضخ، جرى وصلها بخط مياه الفيجة، بعد أن دُمجت مؤسسة مياه العاصمة بمؤسسة ريفها. كما جرى تجهيز مصادر احتياطية، منها 200 بئر، تم حفرها في ساحات وحدائق دمشق، كانت مياهها تستخدم لأغراض ري الحدائق وغسيل الطرقات، إلا أنها تُضخ حاليًا إلى صهاريج كبيرة يقوم تجار السوق السوداء ببيعها داخل الأحياء.

ويرى الخبير بشؤون خدمات مياه الشرب المهندس “مسعف ق”: بأن المياه هذه غير صالحة للشرب، غير أن الأزمة الراهنة، دفعت السكان لشرائها، حتى بأثمان مرتفعة، فقد وصل سعر البرميل الواحد إلى أكثر من 2500 ليرة، فيما تجاوز سعر الليتر الواحد من مياه الشرب الـ 150 ليرة سورية.

ويصطف المئات منذ الصباح الباكر في انتظار سيارات حكومية، تنقل عبوات من المياه المعبأة، أو صهاريج مؤسسة المياه، لشراء ما يمكن منها، في وقت يفيض نهر بردى بمياه الفيجة التي تسربت إليه، ممتزجة بالأتربة وسيول الأمطار، بعد الدمار الذي لحق بمرافق المشروع.

وقد اضطرت بعض العائلات التي لم تتمكن من تأمين حصة ملائمة، إلى جمع مياه الأمطار الهاطلة على أسطح منازلها بطريقة بدائية، فيما قصد بعضها الآخر صنابير المياه الموجودة في الحدائق والملاعب المحلية لإرواء عطشه.

عطش دمشق، صيغة جديدة لحرب تتجاهل اليوم القيم والأعراف الإنسانية، فقد كان من المفترض أن توضع المياه خارج خطط المعركة. لكن “الجنرال” الأسد يحاول، كما فعل نظيره الفرنسي ساراي، أن يفاوض خصومه وفق قاعدة “الماء مقابل السلام”، بعد أن سُدت الطرق أمامه!




المصدر