السويداء مرة أخرى… وهم المجتمع المدني

2 يناير، 2017

جمال الشوفي

ليس مبالغة تاريخية قط، ولا هرطقة فلسفية وفكرية، إعطاء الأبعاد الاثنية والطائفية الدينية دورًا رئيسًا في مجريات الثورة السورية وواقعها، هذا الواقع المتردي الذي شكّل صدمة كبيرة للمفهوم النظري والشعار البراق الذي أطلقته النخبة السورية في بدء الثورة، الدولة “المدنية”، دولة المواطنة والكل السوري لاحقًا، ليتبدى الواقع أمام الجميع اليوم بواقعه السياسي والمجتمعي الأقرب إلى التشتت والهشاشة والتحاجز الديني – الأهلي (علاقات ما قبل – مدنية) والتنافر والانفلاقات السيكولوجية المريبة، واقع تتنازعه ويلات الحرب وشروطها المريرة من جهة، والمصالح الدولية والإقليمية وكل صنوف الوحشية والهمجية أيضًا.

فحلب لم تكن بعيدة، كما هي اليوم، أواخر عام 2012 عن صلاح صادق ورفاقه، الذاهبين إليها فريقَ دعم نفسي مدني تطوعي لمشاركة أطفالها احتفالات رأس السنة وأعياد الميلاد، حين اغتاله برميل سقط من السماء عليهم جميعًا، يحمل شعار محاربة الإرهاب وحماية الديمقراطية والعلمانية والأقليات في سورية! هذا الشعار الذي نقل الثورة من بوابتها المحلية السورية إلى فتح الباب العريض للقتل والتهجير الممنهجين، وكل صنوف العمل العسكري المباشر وتداخلاته الإقليمية والدولية، والسياسيّ المُبطّن ومجريات ما تحت الطاولة.

في تاريخ المجتمع المدني

ربما كانت السويداء، بوصفها مدينة تسكنها الأقلية الدرزية الدينية، أفضل من محافظات سورية كثيرة طالها التدمير والتهجير من هذا الجانب، لكنها لم تكن أفضل حالًا سياسيًا أو مدنيًا، وربما يكتشف أبناؤها في غفلة، أنهم كانوا الأسوأ حالًا في هذين الجانبين! فبعيدًا عن الوضع الاقتصادي والسياسي المُهمش للمحافظة، وقع الشباب السوري- ومن نجا منهم من الموت أو المعتقل بعامة، وشباب السويداء أيضًا، الحامل الأول للثورة ومدنيتها- بين خياري العسكرة أو التهجير القسري والهرب إلى دول اللجوء والهجرة. فمن لم يتخير إحداهما نالته موضوعة الفراغ الثوري المدني والسلمي، فغياب الفعل المُنظّم والمؤسساتي للمعارضة، جعلهم عُرضة للابتزاز السياسي والمالي بجميع صنوفه، ليبدأ كثير من الفاعليات المالية/ السياسية بلعب دور الوسيط بين المنظمات العالمية المانحة للسوريين وأزمتهم، وبين جيل الشباب.

بعض هذه الفاعليات ركب قطار السفر مُبكرًا إلى تركيا، وسارع بافتتاح مراكز ومنتديات، وبدأ باستجلاب الدعم المالي، منهم بحسن نِية وجدية في العمل الوطني المُوصدة أبوابه، بحكم الملاحقات الأمنية الفعلية في الداخل، وآخرون بنِية واحدة فقط، وهي الكسب المالي، حيث يعرفون من أين تؤكل الكتف، وآخرون شكلوا ما سُمّي بـ “المعارضة الوطنية الداخلية الشريفة” التي باتت تُطلق على نفسها “الجبهة الوطنية الداخلية للمعارضة”، ولا أدقق كثيرًا في الاسم.

من هذه النقطة ابتدأ وَهْم العمل المدني في مناطق سيطرة النظام على الأخصّ.

العمل المدني فيها يعني الحياد السياسي، وهكذا يُعرّفه علم السياسة، لذلك؛ يجب أن تكون هذه المُنظمات على الحياد من النظام والمعارضة معًا، ليكسب النظام نقطة عدم خروج الشباب إلى الشارع في مناطق الأقليات. والعمل المدني هو عمل ثقافي في المفهومات المدنية، وهكذا عرفته العلوم الحديثة، ليكسب النظام نقطة أخرى أنه نظام ديمقراطي يسمح بإقامة المنتديات العلنية في أماكن سيطرته، وهو من أقفل منتديات ربيع دمشق، واعتقل القائمين عليها، وهو من سُربت عنه 55 ألف صورة لـ 11 ألف من المعتقلين السوريين المدنيين قبيل جنيف 2، ولازالت التقارير تُشير لما يزيد عن 200 ألف من المعتقلين السوريين السلميين.

السويداء كغيرها من باقي المحافظات السورية وقعت في الدوامة ذاتها، فالشباب أنفسهم الذين خرجوا في المظاهرات، فتحت لبعض منهم بوابة “المجتمع المدني”، بوابة التدريب في الخارج، وبوابة العمل المدني العلني، بينما لازال كثيرون إلى اليوم يعملون في السر، ويتذكرون صلاح صادق ورفاقه حين قصفتهم طائرات النظام! ومثله قضى مروان الحاصباني وغيره في معتقلات النظام تحت التعذيب لنشاطهم المدني السلمي، ولم يزل ناصر بندق في المعتقل منذ بدايات عام 2014 إلى ليوم.

وإذ لا يمكن تحميل جيل الشباب المندفع والمتحمس لممارسة حريته ومدنيّته وتعبيره السلوكي عما يحمله من أفكار ورؤى لنقد سياسي جارف، ربما هو ليس بوارده، أو لم يخطر في باله، نشط المجتمع المدني في السويداء علنًا، بندواته الثقافية ونشاطه المحدود في قضايا المرأة وحقوقها وحقوق الطفل إعلاميًا، وزراعة الأشجار وتنظيف الساحات العامة بعمل تطوعي شبابي جميل. المدنية هذه التي عرفها سعد الدين إبراهيم بأنها شكل التوسط بين الأسرة والمجتمع؛ ليعبر فيها الفرد عن حريته طوعيًا، هي من حيث الوصف الذي مارسه الشباب في منظمات العمل المدني هذه، مع فارق فاضح في المعيار والأسلوب، فهي، أي المدنية المؤسساتية المستقلة عن الحكومة، وما يعرف بـ Non-Governmental Organizations NGOs منظمات مدنية غير حكومية، لا يمكن أن تتحقق بصيغتها القانونية والمؤسساتية، إلا بعد أن ينجز المجتمع دولته الوطنية، ويستكمل بناء مؤسساتها الضامنة للحريات والقانون، بحسب ما عرّفها عزمي بشارة في كتابه “المجتمع المدني”، فتجربة العمل المدني الأوروبية الممارسة اليوم بشكلها الحديث، كانت قد بدأت بتشكيل حلقات المناصرة في خضم الثورات الأوروبية في القرن الثامن عشر، والعمل التضامني الشعبي الأهلي، ومن ثم؛ انتصار كبار المفكرين لها، كهوبز ولوك، وكتاباتهم عنها، إلى أن وصل المجتمع إلى عقده الاجتماعي العام في الحرية والعدالة والمساواة، ثم تأسست بعد ذلك منظمات وجمعيات حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحق الانتخاب العام، أواسط القرن العشرين، حتى جمعيات ومنظمات حقوق المثليين وغيرهم في الوقت القريب.

وَهْم المدنية وذر الرماد في العيون

حقيقة الأمر، هكذا بدأ العمل المدني في السويداء، وفي عموم سورية، فمنذ تجربة “لجان إحياء المجتمع المدني” -صيف عام 2000- التي واكبت منتديات “ربيع دمشق” وقتئذ، لم يُذكر في سورية سوى جمعيات ونقابات تتبع في سلطتها المركزية لنظام البعث وسطوته الأمنية، لكن بعد عام 2011، برزت وطَفَت على السطح التضامنيات الشعبية بصيغ متعددة، منها التنسيقيات، ومنها جمعيات الإغاثة، ومجموعات العمل التطوعي، وهي ذاتها -من حيث المضمون- التي نمت في أوروبا بدايات ثورة عصر الأنوار.

تشير نتائج المسح الذي أجرته منظمة “مواطنون لأجل سورية” عن منظمات العمل المدني في سورية، إلى أن هناك ما لا يزيد عن عشر منظمات عمل مدني في السويداء، يتوزع عملها بين الإغاثة والترفيه الثقافي، وحقيقة الأمر أن العمل الإغاثي الشعبي التضامني في فترات النزوح الأولى للسوريين إلى المحافظة، قد توقف في غالبه منذ عاميين تقريبًا، ليسرق الأضواء بعدئذ زيف الدورات التدريبية والعمل المدني المؤسساتي، بلا مرجعيات قانونية واضحة، وبلا وجود فعلي في الشارع سوى مفهوم الحياد، والحياد في خضم الثورات هذه ما يفسر سكوت النظام عنها! لتبرز على السطح استفادة النظام من دعواه الزائفة في حرب الإرهاب وحماية الديمقراطية والأقليات، من حيث موافقته المبطنة عليها؛ ليجد قادة العمل المدني أنفسهم في وهم العمل المدني في واقع لم يؤسس فيه القانون بعد، وليس كذلك وحسب، بل يستثمر النظام وجودهم إعلاميًا وسياسيًا، ويدخلون في حلقات حوارية مع ممثليه السياسيين في منتديات عامة ومنصات مشتركة! بينما كانت حلب ومستشفياتها ومدارسها تحت وقع الضربات الجوية المُركّزة، كما كان صلاح يومًا، لكنها كانت بعيدة كليًا هذه المرة. ولا تقف المسألة هنا وحسب، بل حين يريد النظام أن يوقف أحد المنتديات يقفلها عبر بوابة الأمن الجنائي، لا السياسي المخصص لذلك، ليوحي بتهمة جنائية؛ ما يشاع حولها كثير، ولازال الجميع يتساءل، ونتساءل معهم، عن حقيقة هذا الأمر بعد ما تناقله كثيرون فعليًا! وتفسيره الأقرب، بعد أن استنفد دوره الوظيفي الذي أراد، إنه ضربة موجهة إلى العمل المدني التطوعي العام أمام الشارع الشعبي، “شوفوا هاي المدنية اللي بدكم إياها”.

لا يمكن أبدا تحميل جيل الشباب وتطلعاته المدنية وزر قصور الفعل الشعبي للأقليات، فللأقليات رؤيتها في موضوع الثورة ومجرياتها، من بوابة صراع ديني محض، وسواء كان هذا حقيقة أم وهمًا، إلا أن افتراض عمل مدني بصيغ مكتملة وناجزة القوانين والمؤسسات، هو وهم يَذرّ الرماد في عيون الشباب، ويُثقل كاهل عملهم المدني التطوعي والتضامني، ويحوّره ماديًا، ويُلغي روحه التضامنية، ويُقلّص فضاء الحرية المتسع أمامهم إلى قوننة ناجزة لمصلحة استفادة ما، فإرادة الفعل التضامني تكون في روح التعاون الجمعي المؤسس على تلاقي إرادة الأفراد الحرة خارج المؤسسات الرسمية، لا استثمار طاقة الشباب هذه في صيغة وكتل كبيرة، يحاربها النظام بالجذر لطبيعته الاستبدادية، ويُفرغ محتواها بإشغاله إياها بجدالات ومتاهات عقيمة شكلية، بعيدة عن همومهم الفعلية والحقيقية في العدالة والحرية والمساواة.

الحرية والمعرفة عمليتان متكاملتان، تستقي إحداهما من الأخرى، ولن تنفصلا، وما شكّل الاستثمار الكريه، السياسي النفعي أو المدني الموارب، سوى حالة موقتة في مسار وعمر تجربة الشباب السوري عامة، والسويداء خاصة، هذا إذا ما تخلوا طواعية عما يثقل مسيرتهم من عراقيل وقيود، كما اختاروا وجودهم الحر والمتفرد أيضًا طواعية منذ البداية، فروح صلاح صادق ونقاؤه ومن كان معه، هي جذور عملهم، وساق تضامنها المتشكل، دون أي فرع وهمي آخر لن يجلب إلا الفراغ والوهم وتخليق جميع شروط سياسة الهروب إلى الأمام الفاقعة.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]