كوميديا “تصحيح المسار”
2 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2017
ناصر علي – ميكروسيريا
(في هذا النداء، أو المراجعة، يجدر بنا أن نتحدث بدون مكابرة أو إنكار، وأن نعترف بشجاعة أخلاقية وبمسؤولية وطنية، ومن دون مواربة، بأن المآلات الخطيرة التي وصلت إليها ثورتنا، أثبتت عقم وإخفاق التصورات أو المراهنات)…وعلى اعتبار التكفير مصطلح أيديولوجي لا ديني فإن خطاب المعارضين السوريين الذين وقعوا على بيان تصحيح مسارات الثورة السورية يقعون في نفس المطب الاقصائي بدء من تحميل الآخر وزر الكارثة التي لحقت بالثورة سياسياً وعسكرياً، ومن بين هؤلاء من نظّر سابقاً لترويج خطاب (النصرة)، والبعض منهم ما زال في حضن الدول الراعية لها، وتنفق عليه وعلى أعوانه، وتقدم له موازنات مشاريعه الخاصة.
هل يستطيع الموقعين على هذا البيان أن يعترفوا بشجاعة أخلاقية بأخطائهم التي اقترفوها هم بحق الثورة، ولماذا تركوها بيد المنظمات المتطرفة التي حرفت الثورة عن مسارها، ولكي يجدوا مكاناً لهم في واجهتها السياسية تبنوا آراء متطرفة فترات طويلة ثم نكصوا عنها بعدما اكتشفوا أن لا مكان لهم في جسد الثورة الأيديولوجي والسياسي.
المقدمة الطويلة التي وضعها منظم البيان عن عثرات الثورة وأسباب اخفاقها (المفترض)، وخروجها عن مسارها ليست كافية لمنح صك براءة للموقعين على البيان، ولا يدين بنفس الوقت كل من عمل فيها ضمن الظروف الصعبة التي تناولتها مقدمة البيان، وإنما تعطي تبريراً لظهور التيار الديني بهذه القوة، وتمنحه الحق في التعامل مع نظام وضع الطائفية شعاراً لحربه، وهو ما دافع عنه أغلب الموقعين على (العريضة)، وليعود القارئ إلى مقالات وبوستات هؤلاء سيجد حقيقة ما يهاجمونه اليوم، وما دافعوا عنه بالأمس القريب.
البيان جاء على هيئة خطاب بعيد عن العمل المؤسسي فهو ليس أكثر من توليفة سياسية تتقاطع فيها رؤى هؤلاء قصيرة المدى وبلغة بائسة قدمت السلبي ثم بررته بنفس الوقت. (وكان الأجدى للثورة، أن تشق مسارها وأشكال كفاحها حسب إمكانيات شعبها، لأن الاتكاء على الخارج أوصلنا إلى ما وصلنا إليه. ثم هل كان من المقدّر للثورة، أن تقتصر على البعد العسكري، وأن تفقد بعدها الشعبي، ومظاهرها الشعبية؟ ومن الذي قرر ذلك؟ وما هي أثاره السلبية؟)…وكأن هؤلاء جاؤوا من عالم آخر أو من الفضاء…وهم اذ يقعون في مطب التناقض عندما يحملون النظام وحلفائه مسؤولية انزلاق الثورة نحو التسلح وفي نفس الوقت يحملونها مسؤولية ذلك.
البيان أيضاً يغوص في تناقضات أخرى ونقاش اقصائي جديد في الحديث عن: (وهم المراهنة على جبهة النصرة (فتح الشام لاحقاً)، وأخواتها، إذ أن هذا الفصيل الذي نشأ بشكل مريب)…ولنذهب مع البيان فيما يريد من اتهام بحق جبهة النصرة التي طالما راهن كثيرون ممن وقعوه عليها في معارك حلب وادلب وصفقوا له ولكن ألا يعزز هذا الخطاب يعزز الانقسام، وكان يجب المطالبة بإعادة صياغة الخطاب الثورجي الديني لا اقصائه ليكون موضوعيا وطنياً، وإيجاد القواسم المشتركة لهذا الخطاب الوطني، وقد أثبتت التجربة صعوبة فك ارتباطها بالفصائل ألأخرى على الأرض عسكرياُ على الأقل وهذا يعني الخروج بأٌقل الضرر، وبما أن موقعي البيان يصرون على الشفافية والشجاعة فهم أكثر من غيرهم باتوا على إدراك بوصول خطاب (النصرة) إلى وجدان السوريين الذين وجدوا فيه معادلاً لخطاب القتل الذي حمله النظام والميليشيات الطائفية، وليست العلمانية القاصرة التي هربت إلى الخارج مع منظريها.
في وهم المناطق المحررة تسقط تجربة داريا ما يذهب إليه البيان في أن (وفي الحقيقة فإن ثورتنا دفعت ثمناً كبيراً جراء التحول نحو العسكرة والعمل المسلح، الذي لم يأت بصورة طبيعية وتدريجيّة وبحسب الإمكانيات، ونتيجة غياب التكافؤ في موازين القوى، والافتقاد لاستراتيجية وخبرات عسكرية مناسبة، إذ تم التركيز على “تحرير مناطق” في حين لم تستطع هذه الفصائل تأمين الحماية لسكانها، ولا فرض نموذج مقبول لإدارتها، أي أن هذه الفصائل سقطت في امتحاني الحماية والإدارة، في حين أنها سهلت على النظام البطش بهذه المناطق، بعد أن تخفف من أكلاف السيطرة المباشرة عليها)…ما أسقط تجربة داريا الناضجة عسكرياً ومؤسساتياً هو الخذلان، والارتهان لأوامر الخارج وليس هشاشة التجربة، والاقتتال الداخلي بين الفصائل ما يزعم البيان، وهذه التجربة صمدت لسنوات في ظل الحصار.
في السؤال الذي طرحه البيان هل كان على الثورة أن تذهب إلى الحد الأقصى في كل شيء…هنا يبرز الدور النكوصي لهؤلاء في عدم فهم عفوية الثورة واندفاعاتها، وأين كانوا هم في عقلنة ما طرحته في اندفاعاتها أم أنهم ذهبوا إلى منتجعات أحلامهم السلطوية الصغرى، وتنظيرهم السطحي حول انحرافاتها وطغيان الاسلاموي على العلماني…فأي ثورة كانوا يريدونها على قياس وعيهم الطبقي السياسي، ومقرراتهم الجامعية ومقالاتهم التي لا تصل إلا لقلة تشبههم أرادت الانزواء وراء شعارات لا تدفع الرصاص والقتل. ما تقدم ليست نقداً للبيان بل مجرد إعادة قراءة لما جاء فيه من موقع مراقب لما يدور على ساحة الوطن، ولا يبدو هؤلاء (الموقعين) في بيانهم أكثر من طامحين لكيان جديد يراد له المشاركة في هذا النزيف المتنوع لمعارضات هشة تشبه إلى حد كبير طموحان ميس كريدي ومنى غانم ولؤي حسين وقدري جميل ومن على شاكلتهم ممن لا يملكون أي حضور شعبي حقيقي. ما جاء في البيان ليس أكثر من قراءة متأخرة للواقع السوري، وكان يجب على الموقعين عليه وهم من الأكاديميين والصحفيين والمثقفين والعاملين في الشأن السياسي أن يكونوا أكثر عمقاً في تناول الواقع السوري وإيجاد بدائل واضحة لا أخذ دور الواعظ السلبي.