الاغتصاب في الأدب الحديث

3 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2017

8 minutes

أنجيل الشاعر

حتى وقت قريب، كانت المرأة تعدّ السلوك الجنسي العدواني تجاهها قدرًا لا مفر منه، لأنه يعكس تصورها عن ذاتها وتصور المجتمع بأكمله لطبيعة الأدوار الموزعة بين الرجل والمرأة في الحياة العامة، فقد نسج المتخيّل الجمعي في مجتمعات، كمجتمعاتنا، تحكمها تقافة مركبة، تتصارع فيها الثقافة الفردية المنفتحة على الحياة والتواقة إلى الحرية، مع الثقافة الأبوية والعادات والتقاليد الاجتماعية والدينية. صورة للمرأة على أنها الأنثى التي يوقعها الرجل الذكر في مصيدته بأي وسيلة وأي ثمن، ولا يحق للمرأة في هذه المجتمات أن تشتكي أو تتذمر أو تحتج، لانعدام القوانين التي يمكن أن تحميها. وعلى الرغم من تصاعد الاهتمام بوضع المرأة في جميع أنحاء العالم، لا تزال معاناة النساء تدخل في إطار المسكوت عنه، ومن أبرزها استباحة الجسد وانتهاك الروح كالاغتصاب وممارسة البغاء.

مما لا شك فيه أن الاغتصاب لا يقع على النساء فحسب، إنما على الأطفال كذلك، وعلى الرجال أيضًا، وقد يكون اغتصابًا للإرادة الحرة أو لحق من حقوق الفرد، أو اغتصابًا للسلطة أو الأرض..، لكن المفهوم الشائع اجتماعيًا للاغتصاب هو الاغتصاب الجنسي للمرأة، وقد يكون الاغتصاب لفظيًا سواء في صيغة التهديد: لأفعلن كذا بأمك أو أختك.. أو “لأعضضنك بظر أمك” كما قالت العرب، أو في صيغ السب والشتم والقدح والذم التي تتناول فرج المرأة، الأم أو الأخت أو الزوجة، بوصفها شرف الرجل، بحسب الثقافة السائدة، فيشعر قاذف اللفظ بالانتصار والمقذوف به باالذل والهزيمة، إن لم يرد الصاع صاعين.

تناول الأدب الحديث حالات الاغتصاب، وثمة عدد كبير من النصوص الأدبية والروايات كان الاغتصاب محورها الأساس، أو صفة بارزة لشخوصها وسردياتها، والغالبية العظمى من النصوص التي تتناول الاغتصاب مستمدة من الواقع، تتجلى فيها روح الغريزة الحيوانية وإشباعها، فتأخذنا الذاكرة إلى روايات “إميل زولا” في بدايات نشوء الطبقة العاملة في بدايات المرحلة الرأسمالية، ومعاناة نساء هذه الطبقة الفقيرة من شتى أنواع القهر والاستغلال والعنف والمتاجرة بأجسادهن، وكيف أصيبت النساء بحالة من اللامبالاة جعلتهن يعشن انفصامًا عن أجسادهن، واعتبارها أدوات للعمل وأوعية منفصلة عنهن -تمامًا- لا علاقة لها بأرواحهن.

ففي رواية  توني ماغواير “لا تخبري ماما”، الصادرة عام 2008 والمترجمة حديثًا إلى العربية، (المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء وبيروت، 2016)، وهي مذكرات الكاتبة نفسها، التي تحكي قصة اغتصابها من قِبل والدها؛ مذ كان عمرها ست سنوات؛ حتى بلغت الرابعة عشرة، بعلم أمها بذلك وسكوتها عنه.

تتحدث الكاتبة بشفافية عالية، فتطعن بقدسية الأمومة، وتعري المجتمع الإيرلندي، الذي أدانها وبرأ أباها البطل، الجندي المقدام، المحارب من أجل وطنه -إبان الحرب العالمية الثانية- ولاعب الغولف والبلياردو. عرته من القيم الأخلاقية، وقررت ألا تموت مرتين، مرة حين اغتصبها أبوها ومرة عند نسيانها للأمر، فكتبت بسردية بسيطة وجميلة تشد القارئ للمتابعة، وهو يمسح دموعه إثر فاجعة انتهاك الروح قبل الجسد، في خضم ظهور منظمة حقوق الإنسان العالمية، فتغدو الإنسانية كرة يتقاذفها اللاعبون في مرمى الشر. ما تحدثت به الكاتبة يترك في نفس القارئة والقارئ مرارة لا تُنسى، وبما أن الإنسان مرآة الإنسان، فقد تجعله يبحث هو الآخر عن إنسانيته وتشعره باستياء، إن لم أقل بهزيمة أخلاقية، وتقوده إلى التشتت بين الوعي والخلاص.

الأدهى والأكثر مرارة ومهانة، أن محامي الدفاع كان يسأل المغتصبة عما أذا كانت تشعر بالتذاذ أثناء اغتصابها، لتخفيف العقوبة على الجاني…

أما فيما يخص النزاعات العدوانية والأكثر وحشية المتمثلة في العصبية والعقائدية الدينية المتطرفة، والتي طفت على وجه المجتمع السوري منذ سنوات، فقد تجلت في العديد من الروايات السورية، مثل رواية ابتسام التريسي “مدن اليمام، التي تظهر وحشية الصراع واندماج الموت بالحياة في صورة الجندي الذي يقتل فتىً صغيرًا هاربًا من الموت، ويمثل بجثته ويغتصبه ليشفي ما يكنه من حقد وكراهية تجاه الآخر، واغتصاب “يمامة”، الفتاة التي تساعد في تضميد جراح المصابين، بغض النظر عن انتمائهم السياسي ووجهتم الدينية، أمام الجندي المصاب الذي قتل الفتى، وكانت قد عالجت جراحه، وهي تعرف أنه قتل ابن عمها واغتصبه، والجندي الذي ينال ترقية مادية أو مرتبة معنوية، بعد كل حالة اغتصاب يقوم بها لنساء الطرف الآخر من النزاع،  يبدو هذا الصراع صراع وجود وإثبات للذات عن طريق الصراع بين الغريزة والموت، والدم الذي يؤجج نار الشهوة الشبقة في مجتمع مأزوم نفسيًا وفكريًا، في ظل الاستبداد والديكتاتورية، وقد بات الاغتصاب تحت مسمى قدسية العقيدة وواجب الثأر.

وقد كتبت “سوسن جميل حسن مقالًا بعنوان “الاغتصاب المركب بين الأدب وسريالية الواقع” (مجلة العربي الوجهة الثالثة الثقافية بتاريخ 20 نوفمبر 20016)، تظهر فيه وحشية الإنسان ضد الإنسان، والصدمة التي لا بد منها للوعي البشري، الذي كان غافلًا عن قباحة الواقع وشراسته. فقد كتبت عن رواية للكاتب السعودي “عبد الله بن بخيت” بعنوان “شارع العطايف”: “هذه الرواية من الروايات التي بنت على فكرة الاغتصاب نصًا هتك وعرّى المجتمع الشرقي المحكوم بالدين والشريعة؛ كما يفرضها رجال دين ذوو سطوة مباركة من قِبل النظام السياسي المتشابكة مع سطوته، مثلما مع سلطان اجتماعي جائر. دخل الكاتب بجرأة وفنية عالية إلى حقل الألغام الديني والاجتماعي، وقد ترك شخوصه تواجه مصائرها بنفسها، ولم يسعَ إلى إطلاق أحكام قيمة أو تنظير في الخطاب الثقافي، بل رصد الواقع بعين عميقة”.

هذا العالم غير المتجانس، الفاقد للعدالة الاجتماعية والقانونية المنصفة للمرأة، وعدم تمكينها في الحياة العملية اقتصاديًا، وتفشي الأمية في صفوف النساء، قد يدفع بالمرأة إلى ممارسة البغاء وانتهاك إنسانيتها، وقد لاحظت الكاتبة المغربية “فاطمة الزهراء أزرويل” ظاهرة ممارسة البغاء في المغرب، ودونتها في كتابها “البغاء واستباحة الجسد” وهو مجموعة من البحوث الميدانية ومقابلات مع فتيات ونساء، ما بين الخامسة عشرة والخامسة والثلاثين سنة، باحت فيها الفتيات والنساء عن الظروف التي قذفت بهن إلى هذه الهاوية.

تقول الكاتبة: “إن الاغتصاب والتحرش الجنسي والفقر والأمية هي العناصر الأساسية في ممارسة البغاء….. ومكافحة هذه الظاهرة ليست بالمواعض الأخلاقية والقيم الدينية فحسب، إنما في تمكين المرأة إقتصاديًا واجتماعيًا، وممارسة دورها كإنسان تتمتع بكافة حقوقها المدنية”
وفي رأي فرويد: “إن النزاعات والحروب ليست نتيجة للتناقضات الاجتماعية أو الطبقية، إنما نتيجة للنزاعات العدوانية الأصلية في الطبيعة الإنسانية، والمرتبطة بنزعة الموت” لذلك تكون الذات الإنسانية في عدائية مستمرة مع الحياة الاجتماعية ومعطياتها الثقافية وعاداتها السائدة، ونرى المجتمعات المحكومة بالثقافة الأبوية والعادات الاجتماعية، في نكوص دائم نحو الطبيعة البشرية الهمجية، ومناهضة للحداثة والتطور.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]