‘نيويورك تايمز: “في روسيا، إنه ليس الاقتصاد، ياغبي”’
3 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2017
أحمد عيشة
الاقتصاد الروسي في ورطةٍ -“في حالة يرثى لها” هكذا قال الرئيس أوباما- لذلك لماذا لا يطيح الروس قادتهم؟ لقد شهدت البلاد ركودًا كبيرًا في الآونة الأخيرة، حيث خسر الروبل نصف قيمته حتى الآن، لكن وفقًا لاستطلاعات الرأي المستقلة الرائدة في روسيا، فقد تجاوزت شعبية الرئيس فلاديمير بوتين على الدوام نسبة الـ 80 في المئة خلال العامين الماضيين.
سبب واحد يجعل المراقبين يتمهّلون؛ هو أنه في حين أن الاقتصاد الروسي يقاوم بصعوبة، لكنه لن يتهاوى، حيث يتذكر عدد من الروس أوقاتًا عندما كان في الاقتصاد في حالةٍ أسوأ من هذه بكثير. وسببٌ آخر، وربما الأهم، التفسير هو أن السيد بوتين قد أقنعهم أنه ليس المهمّ الاقتصاد يا غبي، حاليا.
يعود الفضل الكبير إلى سيطرة الحكومة الواسعة على المعلومات، حيث يعيد بوتين كتابة العقد الاجتماعي في روسيا، الذي كان معتمدًا أساسًا على الأداء الاقتصادي، الآن اعتمادًا على الوضع الجيوسياسي، وإن كانت المعاناة الاقتصاديّة هي الثمن الذي يتوجب على الروس أن يدفعوه حيث يمكن لروسيا أن تواجه الغرب، فلا مانع من ذلك.
لم يكن مثل هذا في التسعينيات وفي الألفية، حيث في ذلك الوقت كانت شعبية القادة الروس مرتبطة جدًا بالأداء الاقتصادي، كما كان برهن أستاذ العلوم السياسية دانيال تريسمان. عندما بدأ الاقتصاد في التعافي من الأزمة المالية في عام 1998، ارتفعت شعبية بوتين، ثم تراجعت عندما توقف النمو، وعادت إلى الصعود مرةً أخرى في عام 2005، بعدما ارتفع سعر برميل النفط عالميًا -وهو سلعة روسيا الرئيسة للتصدير-، تدفقت الاستثمارات الأجنبية وازدهر الاستهلاك المحلي، وانخفضت بشكلٍ كبير بعد تباطؤ معدلات النمو في 2012-2013.
غيّر تدخل روسيا في شبه جزيرة القرم في أوائل 2014 كلَّ شيء؛ ففي غضون شهرين، قفزت شعبية بوتين لتعود إلى أكثر من 80 في المئة، وما زالت حتى الآن، على الرغم من الركود. ويمكن للمرء أن يجادل بأن هذه الأرقام مضللةً؛ نظرًا إلى الضغوط التي يواجهها المعارضون السياسيون للكرملين، هل لم يشاركوا في الاستطلاعات خوفًا من الإجابة بنزاهةٍ على الأسئلة؟ استنادًا إلى دراسةٍ حديثة للعالم السياسي تيم فراي، تعتمد على طريقةٍ مبتكرة وتعرف باسم “تجارب القائمة”؛ فقد تبين أنَّه حتى بعد تعديل تردد المشتركين بالاستطلاع لأن يعترفوا علنًا بأي شكوكٍ حول قادةٍ محددين، فشعبية السيد بوتين هي في الحقيقة عالية جدًا؛ إذ بلغت نحو 70 في المئة.
خلال فترة الركود 2015-2016، انخفض الناتج المحلي الإجمالي GDP بأكثر من 4 في المئة، وتراجع الدخل الحقيقي بنسبة 10 في المئة، هذا أمر مهم، ولكنه أقلُّ خطورةً بكثير من الانخفاض بنسبة 40 في المئة، في الناتج المحلي الاجمالي الذي شهدته روسيا خلال النصف الأول من التسعينيات. وعلى الرغم من الانخفاض الكبير في أسعار النفط، وعبء العقوبات التي تفرضها الحكومات الغربية بعد أزمة شبه جزيرة القرم، تمكنت إدارة بوتين من تفادي كارثة اقتصادية من خلال انتهاج سياسات اقتصادية شاملة مختصة.
يشارك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حفل استقبال في الكرملين في موسكو هذا الشهر. صور ميخائيل كليمينتيف.
وبسبب منع العقوبات روسيا من الوصول إلى الأسواق المالية العالمية، عزمت الحكومة على تغطية العجز في الميزانية عن طريق اتخاذ تدابير تقشفٍ أساسية، وأن تستفيد من صناديقها السيادية الكبيرة؛ ففي أوائل عام 2014، استوعب كلٌّ من الصندوق الاحتياطي (تم إنشاؤه لتخفيف الصدمات المالية الناجمة عن الهبوط في أسعار النفط) وصندوق الضمان الاجتماعي الوطني (الذي أُنشئ لمعالجة أوجه القصور في نظام التقاعد) نحو 8 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي.
تبنّت الحكومة أيضًا سياسةً نقدية سليمة، بما في ذلك قرار تعويم الروبل كاملًا في عام 2014، ونظرًا إلى انخفاض أسعار النفط، والتدفقات الكبيرة في رأس المال الصافي -الناجمة عن الحاجة إلى سداد ديون الشركات الخارجية والاستثمار الأجنبي المحدودة في روسيا- انخفضت العملة بنسبة 50 في المئة في غضون عام، وعلى الرغم من أنَّ روبلًا ضعيفًا يضّر بمستويات معيشة المواطنين الروس العاديين، لكنه يعزّز القدرة التنافسية للشركات الروسية، وسيعود الآن الاقتصاد الروسي إلى النمو مرةً أخرى، ولو بتواضع كبير، بنسبةٍ متوقعة من 1 إلى 1،5 في المئة سنويًا، على مدى السنوات القليلة المقبلة.
لم يحقق هذا الإنجاز أي قيمة تقريبًا من وعود الحملة الانتخابية للسيد بوتين عام 2012، عندما توقع نمو الناتج المحلي الاجمالي بنسبة 6 في المئة سنويًا من عام 2011 إلى عام 2018. ولكنها لم تكن كارثية في أيٍّ من الحالتين، ونجحت الحكومة في تفسير ذلك.
ويعود ذلك جزئيًا إلى سيطرتها شبه الكاملة على الصحافة والتلفزيون والإنترنت، فقد قدمت الحكومة روايةً ضخمة حول دور روسيا في العالم -أساسًا لتعزيز الرأي القائل إنّ الروس قد يحتاجون إلى شد أحزمتهم لما فيه خير الأمة، وفي القصة عدد من القصص الثانوية. يحتاج المتحدثون بالروسية في أوكرانيا إلى من يدافع عنهم ضد النازيين الجدد، وتدعم روسيا الرئيس السوري بشار الأسد لأنَّه هو المتراس ضد الدولة الإسلامية، وساعدت على تحرير حلب من الإرهابيين.
لماذا كان على الكرملين أن يخترق الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة؟ ومن يصدق ما تقوله وكالة المخابرات المركزية CIA على أية حال؟ يبدو أنَّ الشعب الروسي يصدق الكثير من هذا، أو لا يهتم بطريقة أو أخرى، وهذا ينبغي ألّا يكون مفاجئًا. في دراسةٍ حديثة استندت إلى بيانات 128 بلدًا على مدى 10 أعوام، طوَّرْنا، أنا والأستاذ تريسمان، نموذجًا اقتصاديًا قياسيًا لتقييم أي العوامل تؤثر في شعبية الحكومة وكيف، واستنتجنا أنَّ إزالة ضوابط الإنترنت تمامًا في بلدٍ مثل روسيا اليوم، من شأنها أن تتسبب في انخفاض شعبية الحكومة نحو 35 في المئة. كما أكدَّ نموذجنا أيضًا أنَّه في جميع البلدان، الديمقراطية وغير الديمقراطية، المواطنون هم أقلُّ عرضةً للموافقة على حكوماتهم إن كان النمو الاقتصادي منخفضًا.
الآن، حيث انتهى الركود وارتفع سعر النفط، فهل من المتوقع أن يتغير قريبًا العقد الاجتماعي في روسيا مرةً أخرى إلى عقدٍ قائمٍ على أساس الاقتصاد؟ لا يبدو ذلك مرجحًا. لقد خدمت المقاربة الحالية الحكومة جيدًا وبما فيه الكفاية، ويمكن أن تستمر في خدمتها، فقد أصبحت روسيا دولةً لا غنى عنها في الشؤون العالمية من جديد، في حين ترتب أمورها لتتجاوز الضغوط الاقتصادية التي خفّت الآن، وفي الوقت نفسه، لم تظهر الحكومة حتى الآن إلّا استعدادًا طفيفا لإجراء الإصلاحات العميقة اللازمة لتحديث الاقتصاد وتنويعه، وتحفيز النمو فعليًا.
كشفت الحكومة مؤخرًا ميزانيتها خلال 2017-2019، متوقعةً المزيد من تدابير التقشف الأساسية، حيث ستخفض النفقات بنسبةٍ تزيد على 10 في المئة من حيث القيمة الحقيقية على مدى السنوات الثلاث المقبلة، ومن المتوقع أن يظل الناتج المحلي الإجمالي الروسي أقلّ من المتوسط العالمي، وهو ليس أداء مضيئًا، ومن ثمّ، فإن الحكومة قد تفضل جيدًا أن تستمر في تسويق نفسها للشعب من خلال التذرع بالجغرافيا السياسية والكرامة الوطنية، وليس بالرفاه.
اسم المقالة الأصلي In Russia, It’s Not the Economy, Stupid الكاتب* سيرغي غورييف، Sergei Guriev مكان النشر وتاريخه نيويورك تايمز، The New York Times
25-12-2017
رابط المقالة http://www.nytimes.com/2016/12/25/opinion/in-russia-its-not-the-economy-stupid.html ترجمة أحمد عيشة
سيرغي غورييف: كبير الاقتصاديين في البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، في لندن.
[sociallocker] [/sociallocker]