الخيارات المتاحة وتجديد الرهانات


فؤاد عزام

عام جديد بدت معه القضية السورية، وكأنها بدأت تخرج من عنق زجاجة مجلس الأمن التي أبقاها الـ (فيتو) الروسي عالقة فيه لسنوات، وشكّل عارًا أخلاقيًا تاريخيًا على المجتمع الدولي، لكن أيضًا لم يتبن المجلس قرارًا مُلزمًا بشأن وقف إطلاق النار في سورية، بل جرى تغيير بعض جوانب مشروع القرار الروسي لتلميع صورته في آخر جلساته قبل أن يتفرغ أعضاؤه لعطلة الأعياد السنوية، في وقت ما تزال فيه ميليشيات إيران والنظام، تأخذ على عاتق غرائزها العدوانية الحل العسكري وسيلة في قتل السوريين، وتدمير بيوتهم خصوصًا في مناطق وادي بردى وغوطة دمشق الشرقية، بهدف إفشال الاتفاق، الذي لا يرى الأتراك من جانبهم، وهم أحد الضامنين له إلى جانب روسيا، أنه تعرض لخرق يمكن أن يهدد تنفيذه حتى الآن.

كان من الممكن أن يحسب لـ “مجلس الأمن الدولي”، هذه المرة، بعد خيباته طيلة السنوات الست الماضية، أنه أجرى تعديلات جوهرية على مشروع القرار الذي تقدمت به روسيا والمتعلق بوقف إطلاق النار في سورية. لكن ما يمكن أن يكون غير إيجابي هو عدم تبنيه مشروع القرار، مكتفيًا بإصدار قرار تحت الرقم 2336 بالإجماع يدعم الجهد الروسي والتركي لإنهاء العنف والعودة إلى المسار السياسي، وأيضا فإنه حتى لو غير فقرة مهمة من مشروع القرار الروسي، تتعلق بمرجعية بيان جنيف الذي لا تعترف بها إيران، إلا أنه لم يأت على ذكر وقف إطلاق النار، ما يجعله في حِلّ من أي التزام لوقف قتل السوريين.

سيبقى “مجلس الأمن” داعمًا عن بعد؛ نتيجة لقراره الأخير، ولن يتدخل، الأمر الذي عملت عليه الولايات المتحدة، حين أطلقت يد روسيا وصيّة على سورية، من خلال اتفاق كيري لافروف الشهير، حتى لو أصرّت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا، على أن تكون مفاوضات أستانة التي أقرها “إعلان موسكو” الموقع من روسيا وتركيا وإيران ضمن العملية السياسية القائمة في جنيف، أي برعاية الأمم المتحدة.

تبدو الدبلوماسية الروسية -الآن- وقد جنت ثمار الفيتو الذي لم يكن حقًا أخلاقيًا لها أو لغيرها، كما هو تدخلها العسكري في البلاد، تلك النتيجة كانت أقرب إلى تفردها بتفويض أميركي، في إدارة الأزمة، وطرح حلول على الأطراف السورية والإقليمية التي تتحضر لمعركة من نوع آخر في أستانة، أطرافها الأساسية روسيا وإيران وتركيا.

في خضم عملية التحضير هذه ثمة معادلة متفائلة نضجت بُعيد إعلان موسكو، مفادها أنه بمقدار ما يكون هناك تقارب روسي تركي، بمقدار ما تتسع الهوة بين إيران وروسيا، وهذه الرؤية تبدو متعارضة مع وجهة نظر أخرى، تقول إن المراهنة على خلاف بين الروس والإيرانيين في سورية، شبيهة بتلك التي تعلق بها كثيرون لسنوات، وهي موقف الولايات المتحدة من فقدان النظام شرعيته، وكانت نتيجتها تأنيبًا أميركيًا شديدًا للمعارضة، لعدم قبولها انتخابات في ظل وجود الأسد، وعدم النأي بنفسها عن الإرهابيين.

ربما كان أبعد ما وصل إليه التقارب الروسي – التركي، هو اتفاق وقف إطلاق النار الشامل في سورية، بحيث بدت معه الصورة وكأن خلافًا قاب قوسين أو أدنى، سينشب بين روسيا وإيران، لكن ليس على تقاسم الغنائم السورية، بل حول الضبابية التي أحاطت بالاتفاق من عمليات ميليشيا إيران في منطقة وادي بردى، التي ستلقى مصير أحياء حلب الشرقية.

يريد الأتراك تسوية سياسية، في حين مازال الإيرانيون يعملون على الحسم العسكري، وهذا ما اتضح من الزيارة التي قام بها وليد المعلم وعلى مملوك إلى طهران أخيرًا، التي ترافقت مع تصريح للمتحدث باسم “الحرس الثوري الإيراني، العميد رمضان شريف قال فيه: إن ميلشيات إيران ستواصل أعمالها العسكرية في أي منطقة من سورية.

يحاول الروس أن يظهروا في موقع الوسط، وقد تحدث بوتين عن المفاوضات المقبلة بحيث أخلى مسؤوليته عن أي مفاجآت قد تحدث، فهو يُدرك أن الخاسر من الحل السياسي هم الإيرانيون والنظام.

يُصرّ الأتراك على توسيع الأطراف المشاركة في مفاوضات أستانة المقبلة، لتشمل المملكة العربية السعودية ودول خليجية أخرى، في وقت ترفض إيران ذلك، حيث قالت على لسان وزير دفاعها، حسين دهقان “ليس للسعودية الحق في المشاركة في المفاوضات “، ويريد الأتراك من خلال إصرارهم وضع المعادلة في مسار أقرب للتوازن الضاغط؛  لإنجاز التسوية، وهم يدركون حقيقة الموقف الروسي، الذي كان إلى وقت قريب عسكريًا كاملًا، وداعمًا للنظام وإيران ومتوحشًا في تدميره المناطق السكنية، على الرغم من أنه أصبح أكثر واقعية من خلاله اعترافه بقوى فصائل الثورة التي يتلقى قسم منها دعمًا من تركيا، لكن في المقابل فإن إيران تحاول أن تُشرك العراق، وتبدو الآن هذه النقطة خلافية بين الجانبين، يحاول الروس التوسط لحلها حفاظًا على “إعلان موسكو”.

قد تظهر خلافات بين الأطراف الثلاثة خاصة في مرحلة الحديث عن المصالح والنفوذ في سورية، أو قبيل بدء مفاوضات أستانة، لكنها تدخل في إطار رفع السقف من أجل الحصول على مكاسب أكثر، وهذا طبيعي لكنه من غير المرجح أن يصل إلى حد انفضاض “إعلان موسكو” أو التأثير في خريطة الطريق التي اتفقت عليها تلك الدول، ولا سيما أنه لم يكن ليتم دون موافقة الولايات المتحدة خصوصًا، وأهم ما فيها أن لا حل عسكريًا، بمعنى أن لا حرب ضد النظام، والأولوية هي لمحاربة الإرهاب الذي يعني بالنسبة لها القوى الإسلامية، التي اتحد المجتمع الدولي وفي مقدمتهم الرئيس الأميركي الجديد إلى إنهائها إنهاء تامًا.

من المهم البناء على النجاح الذي تحقق، من خلال انتزاع الاتفاق شاملًا وليس جزئيًا بمساعدة تركيا، هو ما كانت تطالب به المعارضة باستمرار، وقد أثبت اعترافًا بقوة الفصائل المقاتلة على الأرض وشرعية تمثيلها الثورة، وأنه لا يوجد حل دون الشعب السوري، لكن من الضروري أن تكون هناك مشاركة عربية ودولية لضمان الاتفاق ورعايته، فقضية الشعب السوري، هي قضية سياسية عربية، والاتفاق لا بد من أن يكون أحد وثائقها التي يجب أن يتولى مجلس الأمن الدولي تبنيها، وليس دعمها وحسب، وهذا لا بد أن يكون قطعيًا، لكي يُستثمر في مفاوضات  أستانة، التي ستكون شاقة وصعبة وطويلة،  خاصة أن الضامن الروسي  يحتاج إلى ضمانة، وهو الذي أسال على الشعب السوري حمم صواريخه وطائراته، وتبقى أهم ضمانة ومراهنة وخيار هي القوى الذاتية وتعزيز صمودها.




المصدر