برنامج إبراهيم عيسى توقف «لوقت لعله يأتي»


توقف أو أُوقِف أو وقف البرنامج الوحيد المتبقي على الساحة الإعلامية المصرية الذي يتخذ لنفسه مساراً يختلف عن المسار الأكبر والأوحد «الداعم للدولة». فبعد فترة قصيرة ولكن مكثفة من الشد والجذب، توقف برنامج الإعلامي إبراهيم عيسى.
عيسى صاحب الصولات والجولات، والمغامرات والمشاكسات، والتاريخ الطويل من المعارضة بـ«ستايل» يختلف شكلاً وموضوعاً عن كل ما عداه من معارضات على مدار كل الأنظمة السياسية المصرية التي عاصرها، يتربع هذه الآونة على عرش الـ«توك شو»، لا من بوابة محتوى برنامجه المثير للجدل الذي تنقل به من قناة إلى أخرى، ولكن من بوابة توقف برنامجه.

برنامج أشعل مختلف أنواع الأثير في مصر، بين عنكبوتي وتلفزيوني وكذلك أثير جلسات المقاهي والبيوت الدافئة. فعيسى القادر على أسر قلوب وعقول الملايين سواء معه أو ضده ليس مجرد مذيع تلفزيوني أو مجرد كاتب صحافي، بل هو شخص ذو فكر وتوجهات معارضة بغض النظر عمن يعارض أو بما يؤمن به أو ما يمثله من تيار أو توجه أو حتى انعكاس لتوجه رأس مال القناة أو الجريدة.

«مع إبراهيم عيسى» كان في الأشهر الماضية المتنفس الوحيد لكلمة «لا» التي يختلف المصريون عليها. فـ «لا» المختفية من على الساحة الإعلامية على مدار الأعوام الثلاثة الماضية اختفت لأسباب متباينة وفي أجواء شعبية لا يصدقها إلا من يعايشها.

معايشة المصريين لسنوات ست عجاف تلت رياح التغيير الربيعية في شتاء 2011 أدت إلى ردود فعل متباينة لدى المصريين، وهي ردود الفعل التي يمكن تأريخها من خلال شاشات الفضائيات التي يمكن اعتبارها ساحة صنعت الحوادث، وترمومتر قياس المجريات، ومجالاً لتحريك أو تسكين الملايين. ويكفي أن مذيعين كثراً ممن حازوا في أوقات متفاوتة نسب مشاهدة عالية جداً، إما لأنهم كانوا مصنفين معارضة، وإما لأنهم كانوا لسان حال المواطن المقهور، وإما لأنهم تحدثوا في ما لا تود السلطة الحديث فيه، تعرضوا لإقصاء شعبي – أو على الأقل من جانب كبير من المشاهدين الذين شعروا بأن الثورة والتغيير والإخوان والشرق الأوسط الجديد أنهكهم تماماً – قبل إقصائهم من قنواتهم، ومنهم مثلاً محمود سعد وريم ماجد ودينا عبد الرحمن وأخيراً إبراهيم عيسى.

وعلى رغم أن إبراهيم عيسى هو الوحيد الذي توقف هنا ثم عاود الظهور هناك، ثم أوقف هناك ليظهر هنا، ومن هنا إلى هناك مراراً وتكراراً، لكنّ هذه المرة وصل القيل والقال، والرأي والمعلومة، والخبر والتحليل، والتعضيد والتنديد إلى أقصى حد، وذلك بحسب التوجه والهوى أو انعدامهما. التوجه العام لدى رجل الشارع يميل إلى عدم الاكتراث المقصود بإبراهيم عيسى أو غيره. يقول موظف الأمن في العمارة الفارهة: «لا وجوده (برنامج إبراهيم عيسى) أثّر في توافر السكر، ولا غيابه سيؤثر في رخص سعر الرز».
وبعيداً من السكر والرز، فإن آخرين رأوا في وقف البرنامج قراراً تأخر كثيراً. هذا التوجه من بعضهم في مصر يميل إلى تأييد الرئيس والدولة على اعتبار أن مصر في حرب، وفي الحروب لا مجال للمعارضات والمشاكسات. كما أن بعضهم في هذا الفريق يؤيد الرئيس عبدالفتاح السيسي تأييداً يمنعه من اعتبار من ينتقد الرئيس وأداءه، حقاً من الحقوق أو حرية من الحريات.

ولكن يظل هناك – من المتابعين لبرنامج إبراهيم عيسى أو حتى ممن لا يحبون متابعته – من أغضبهم وأحزنهم خبر الإيقاف. المنتمون إلى هذا الفريق يؤمنون بضرورة وجود صوت معارض – بغض النظر عن الاختلاف أو الاتفاق معه – على الساحة، وأن غياب كل معارض إنما يصب في مصلحة أعداء النظام وكارهي البلاد.

وعلى رغم أن برنامج إبراهيم عيسى لم يكن يحظى في أشهره الأخيرة بنسب مشاهدة عالية، وذلك بعدما خفتت فورة برامج الـ «توك شو» عموماً، واختار الملايين الانصراف بعيداً من الشاشات المؤرقة أو البرامج المؤثرة، فإن الاهتمام بوقف البرنامج عكس أموراً عدة. زملاء عيسى في فضائيات خاصة أخرى ذرفوا الدمع على رحيل البرنامج على اعتبار أنه تكميم للأفواه، وإخراس للألسنة على رغم أن بعضهم يتحدث من داخل القنوات التي اقترفت قرارات وقف شبيهة، أو رضخت لضغوط وقف أيضاً في سنوات وأشهر سابقة.

مجتمع «فايسبوك» و«تويتر» غاص كذلك في غياب «مع إبراهيم عيسى»، لكنه غوص متخم بالتحليل. بعضهم اعتبر الوقف دليلاً دامغاً على تغول النظام وتكميم الأفواه وحساسية شديدة تجاه كل صوت معارض. آخرون رأوا أن الأمر برمته اتخذ حجماً أكبر من حجمه وأن وقف البرنامج أمر مادي بحت. فريق ثالث أكد أن عيسى لديه خطة عملية مغايرة، لكنه يتقن مشهد الخروج بحرفية بالغة حيث يضمن خروجاً مشرفاً وقابلاً للاستثمار في الخطوة المهنية التالية. آخرون رأوا توقفه توقفاً محموداً لأنه «يعارض وخلاص» أو لأنه «يبحث عن الأضواء حتى لو كان على جسد الوطن». وهناك من قرأ بيان عيسى عن توقف البرنامج كافياً لإنهاء اللغط وإخماد الكمد والتوقف عن استغلال كل موقف للترويج لأيديولوجيا بعينها أو تأكيد هوى من دون غيره.

بيان عيسى جاء فيه شكر عميق لجمهوره الذي أحاط البرنامج «باهتمام بالغ وتفاعل مدهش وجدل متجدد ونقاش واسع جعل حلقات البرنامج على درجة من التأثير الذي عبر حدود تأثير مجرد برنامج تلفزيوني، ما ألقى عليه أعباء وتعرض معه لأنواء وأحيط بالضغوط. ففي الوقت الذي ساهم فيه في اتساع عقول تسبب كذلك في ضيق صدور. وبكل حب لمن أحب البرنامج ولمن اختلف مع صاحبه، وبكل اعتزاز برأي من وضع البرنامج موضع التقدير وبكل تفهم لمن أثقل البرنامج قلبه بالغضب والكراهية، فإنني أتقبل أن تكون هذه اللحظة مناسبة للتوقف عن تقديم البرنامج، حيث أظن أن مجريات الوقائع وضرورات الوقت وطبائع المقادير تقود لأن أترك مساحة التعبير التلفزيوني لمرحلة أخرى، ووقت لعله يأتي».

وإلى أن يأتي الوقت، تجدر الإشارة إلى أن مجلس النواب المصري شنّ هجوماً ضارياً على عيسى وبرنامجه قبل أيام، قاده رئيس البرلمان الدكتور علي عبد العال ومعه عدد من النواب. وقال عبد العال إن ما يقوله عيسى في برنامجه يضعه تحت طائلة القانون. وكان عيسى أثار جدلاً كبيراً مرتين، الأولى حين قال إن قانون بناء الكنائس الجديد يحوي مادة تمنع الأقباط من رفع الصلبان على الكنائس، والثانية حين انتقد البرلمان لما أشيع حول نية لمناقشة تعديل مدة الرئاسة.



صدى الشام