وقف إطلاق نار أم وقف النفوذ الإيراني؟


بيان موسكو الذي خرج عن الاجتماع الثلاثي لوزراء خارجية دول روسيا وتركيا وإيران لا يعكس بالضرورة كامل وجهات نظر وحقيقة استراتيجية الدول الموقعة على البيان، بل يمكن القول إنها نقاط مشتركة شكلت جزءاً من استراتيجية تلك الدول وأن كلاً منها ستوظفها لتحقيق أجنداتها الخاصة. وقد تكون من بين تلك الدول من لا توافق ضمنياً على كل هذا البيان لكنها اضطرت للتوقيع كي لا تصطدم مع روسيا وتتكشف أوراقها كما فعلت إيران.

حتى اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقعته روسيا كضامن لميليشيات إيران والأسد، ووقعته تركيا كضامن لفصائل الجيش الحر والثورة. هذا الاتفاق لم توافق عليه إيران بإرادتها بل اضطرت مرغمة باعتباره أحد نواتج بيان موسكو وكضرورة روسية لا تستطيع مخالفتها إيران.

لكن يبقى السؤال: لماذا ترفض إيران أي وقف لإطلاق النار وتعتمد الخيار العسكري كخيار أوحد لها ولنظام الأسد الذي لا يخرج عن إرادتها في هذا المجال حتى بعد دخول الدب الروسي؟

 

من حيث المبدأ ووفق نظرية تصدير الثورة الإيرانية فإن سوريا تشكل عصب المشروع الفارسي الإيراني في منطقة الشرق الأوسط ونافذة إيران على حوض المتوسط وصلة وصلها بين فردتي حذائها في المنطقة أي حكومة العبادي  وحزب الله اللبناني، ولا أحد غير نظام الأسد وبشار الأسد بالذات قادراً على منح إيران تلك الميزات. وهذا ما يفسر ضخ إيران لأكثر من 50 مليار دولار خلال سنوات الثورة الست الماضية ومحاولتها عبر تلك الأموال تقوية عسكرة وشبيحة الأسد وإخماد الثورة السورية حتى لو قتلت كل الشعب السوري.

من خلال هذا المنطلق وجدنا أن إيران ومنذ الأيام الأولى من عمر الثورة وأيام سلميتها ومظاهراتها كانت قد وجهت نصيحة بصيغة الأمر لخادمها في قصر الرئاسة السورية “الأسد” بعدم التنازل وعدم التراجع وعدم الاستجابة لأي من متطلبات الشعب الذي بدأت ثورته بمطالب خدمية وإصلاحية.

الرفض الإيراني عكس خوفاً من أن تكرّ السبحة عبر التنازلات وصولاً بالأسد لترك السلطة، وتتالت أعوام الثورة وفشل حلم إيران بإخماد الثورة بعد أن حاولت عبر أذرعها وخدمها من أتباعها في المنطقة العربية (الذين كانوا خناجراً في خاصرة العرب) بدءاً بحزب الله وصولاً لمليشياتها الطائفية في العراق امتداداً لعصاباتها الشيعية في الباكستان والأفغان. وعندما عجز كل هؤلاء عن تحقيق أمنياتها في سورية زجت بمجرميها من “فيلق القدس” و”الحرس الثوري” وبعض ألوية الجيش الإيراني، ووضعت الجميع تحت قيادة المجرم المطلوب بمذكرة اعتقال للأنتربول الدولي الجنرال “قاسم سليماني”.

في الربع الأخير من عام 2015 شارف المشروع الفارسي على الاندحار آخذاً معه قزمها الأسد فسارعت إيران لإرسال جنرالها “قاسم سليماني” للعاصمة “موسكو” ليعقد صفقة مع “الفوهرر بوتين” ويمنحه وعوداً وتطمينات بإخماد ووأد الثورة إذا ما كان هناك غطاء جوي روسي فعال (ليتبين فيما بعد أن كل تلك الوعود لم تكن إلا طواحين هواء)، واضطرت بذلك “ولاية الفقيه” لتجرع السم ومشاركة روسيا بالغنيمة السورية رغم الاختلافات الجذرية بين أجندات الدولتين في سوريا، فالأجندة والإيديولوجية التي تتمتع بها ميليشيات “سليماني” والعاصمة “قم” تختلف كلياً عن الجيش الروسي الذي لا يحمل أي أجندة دينية بل يحمل مطامع وبحث عن مناطق نفوذ يقايض بها الغرب حول قضاياه العالقة معه في شبه جزيرة القرم وأوكرايينا والدرع الصاروخي والعقوبات الاقتصادية. لكن الطرفان (إيران وروسيا) اتفقا على أن قتل الشعب السوري لا يشكل أي مشكلة أمام تحقيق مشاريعهما المشتركة.

 

اللعب على المكشوف

 أجندة إيران في سورية والزج بكل تلك الحشود من ميليشياتها والضخ بكل تلك الأموال كان يتم تحت أعين القيادة الروسية في “موسكو” ومقرها المتقدم في قاعدة “حميميم” الجوية، وكالذئاب كلٌ منهما ينتظر الوقت للنيل من الآخر. لذلك كانت العلاقة التي تجمع الشركاء ظاهرياً والأعداء ضمنياً تتصف بالتوجس والخوف والحيطة وعدم الاطمئنان والترقب.

الصحافة الإيرانية ولأكثر من مرة حذرت (وهي الناطقة باسم ملالي طهران وحرسه الجمهوري) من إمكانية تخلي “بوتين” عن “الأسد” لإدراكها أن المصالح الروسية في سوريا  قادرة على الاستمرار مع أي سلطة بديلة للأسد بعكس إيران التي ستكون أول من يطرد من سورية بمجرد سحب خازوق السلطة من تحت عميلها الأسد وبالتالي كانت تقف بالمرصاد لأي قرار يصدر عن موسكو. حتى اتفاق إخلاء المدنيين من مدينة “حلب” الذي حدث مؤخراً والذي اتخذه الرئيس “بوتين” وبتنسيق مع “تركيا” شاهدنا كيف عرقلته “إيران” في المرة الأولى عبر ذراعها العراقي “حركة النجباء”، وفي المرة الثانية عبر ذراعها اللبناني “حزب الله” ليس من أجل تمرير وإخراج بضعة آلاف من شيعتها في “كفريا والفوعا” بل كانت رسالة لموسكو بأن أي قرار يخص نظام “الأسد” ومهما كان صغيراً فإنه لن يرى النور إن لم يعبر من طهران.

اتفاق وقف إطلاق النار الذي أصبح ضرورة روسية بعد كل ما حصل في أحياء “حلب” الشرقية على يد الميليشيات الطائفية التابعة لإيران من جرائم ذبح وطعن وسرقة وتعفيش وتغيير ديموغرافي تدرك معها “موسكو” أن تلك الجرائم ستكون وثائق وأدلة محفوظة في أروقة وأدراج محكمة الجنايات الدولية في “لاهاي” حتى وإن انسحبت منها روسيا وهي لا تريد زيادة غلتها من المجازر، والاتفاق ضرورة روسية أيضاً بعد ما وثَقت أجهزة استخباراتها كيف “تساهل” أو سلّم نظام الأسد مدينة “تدمر” مرة ثانية لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وكيف تسبب ذلك بحصار 320 جندي روسي تم إنقاذهم من أسر “داعش” بعملية جوية كثيفة استطاعت فيها طائرات “بوتين” وبشق الأنفس فتح ثغرة بجدار التطويق وإخراج الجنود منها وإلا كان “بوتين” اليوم يُقذف بالأحذية أو يُسحل بشوارع “موسكو” لو استطاع “داعش” أسر هؤلاء، وزاد بالأمر سوءاً تلك الغنائم من الأسلحة النوعية التي تركها نظام “الأسد” قصداً في مستودعات “تدمر” كغنائم لـ”داعش” والتي شكلت خطراً ليس على تركيا في معركة “الباب” فقط كما أراد النظام بل حتى على الطائرات الروسية والأمريكية كما صرح البنتاغون الأمريكي وكبار القادة العسكريين.

 

بعد الذي حصل باتفاقية “حلب” وبعد كل جهودها الدبلوماسية والعسكرية باتت روسيا تشعر أيضاً أنها تعمل كمرتزقة عند ميليشيات “قاسم سليماني”، وأنها رغم كل تلك الجهود لم تستطع أن تُخرج بشار الأسد من حضن “ملالي طهران”. والأمر لم يتوقف بالنسبة لموسكو عند هذا الحد بل وصلت لقناعة أن مهمتها التي منحتها بالبداية أربعة أشهر للتنفيذ ثم مددتها لعام ثم زادت عليها؛ الآن وبعد مجريات المعارك الأخيرة أصبحت على علم تام وقناعة كاملة أن تواجدها وقتالها والكارثة الاقتصادية التي تورطت بها قد تمتد لأعوام وأعوام تزيد بكثير عن قدراتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وحتى أنها تزيد عن قدرات حق النقض “الفيتو” الذي تحمله في مجلس الأمن, وبالتالي كان قرار “بوتين” هو البناء على “إنجاز حلب” وطرح مشروع “وقف إطلاق النار” والدعوة لمفاوضات “الآستانة”.

على المقلب الآخر وعند فصائل الثورة السورية التي تُركت في ساحات المواجهة شبه وحيدة إلا من بعض الإخوة  والأصدقاء المكبلة أيديهم عن تقديم العون، فإن تلك الفصائل تشعر بأن موازين القوى ليست في صالحها، وأن خسارة مدينة بحجم مدينة “حلب” ورغم قساوتها إلا أنها قد لا تكون النهاية، وقد يسوء الأمر لما هو أكبر وأخطر، والحاضنة الشعبية التي أنهكها الحصار والتهجير والنزوح والبحث عن لقمة العيش والبحث عن سرداب أو كهف أو ركام يحمي أطفالهم من براميل موت “الأسد” وصواريخ “بوتين” وخناجر وسكاكين ميليشيات “سليماني ونصر الله” هؤلاء جميعاً وجدوا باتفاقية وقف إطلاق النار بوابة يمكن الولوج إليها على أمل إبصار النور الذي ينتظرونه منذ ستة أعوام.

إيران تراقب وتعلم ولديها من القدرة على دراسة الموقف وتتبع مستجدات الأوضاع وموازين القوى، وبرغم خسائرها التي باتت تكشف عنها في العام الأخير بعد دخول المحتل الروسي كي تلمح إلى تضحياتها في سورية إلا أنها تعلم حق المعرفة أن أي اتفاق وقف إطلاق نار سيتبعه حل سياسي وسيكون أول بند يُكتب في وثيقة الحل هو إخراج كل الميليشيات الأجنبية من سورية. لذلك استبقت “إيران” هذا السيناريو بتشكيل ما يُسمى “الفيلق الخامس اقتحام” وبنفس الوقت تعمل من تحت الطاولة على تخريب كل الهدن وتخريب اتفاق وقف إطلاق النار الذي جرى مؤخراً برعاية روسية_ تركية، ويساندها بجهود التخريب نظام “بشار الأسد” الذي يعلم أيضاً أن أي اتفاق لحل سياسي في سورية سيجعل منه الراكب الأول في قطار محكمة الجنايات الدولية أو ينتظر مصيراً مشابهاً لقرينه في الإجرام “معمر القذافي”.

الخديعة الروسية بتقديم وثائق مختلفة لفصائل الثورة وعصابة الأسد لا تُبشر بالخير وقد تكون خديعة روسية مزدوجة للثوار والنظام معاً بحيث أنها ترضي الطرفين وتفعل بالمقابل ما تُريد، والخروقات التي حدثت أيضاً كانت متوقعة ليس فقط من أجل تخريب الاتفاق بل من أجل تشكيل ورقة عسكرية ضاغطة على الفصائل الثورية التي ما تزال مترددة أو رافضة لاتفاق وقف إطلاق النار.

بكل الأحوال عودة المظاهرات وعودة علم الثورة ليرفرف عالياً في سماء بلدات سورية المحررة هي رسالة تقول لمن  يهمه الأمر: مهما مضى ومهما حدث فأهداف الثورة ثابتة ولا تتبدل … الشعب يريد إسقاط النظام.

لكن يبقى السؤال من سيطرد من ؟ روسيا ستطرد إيران أم العكس؟

الواقع والقدرات تقول: أن روسيا قادرة وبجهود مختلفة على تحجيم الدور الإيراني وحتى طردها خارج سورية وهو قرار متخذ في موسكو وعدة عواصم غربية وعربية وحتى في تل أبيب لكنه ينتظر موعد التنفيذ.

لكن متى يبدأ التطبيق هو ما ينتظره الجميع؟

 



صدى الشام