اتفاق الهدنة… من المستفيد ومن الخاسر
5 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2017
جلال زين الدين
لم يكن ليتمّ الاتفاق الروسي – التركي (وقف إطلاق النار بين قوات المعارضة والنظام)، ويبصر النور، لولا حصار حلب، ثم سقوطها -لاحقًا- بيد النظام السوري، وهذا ما جعلَ كثيرًا من المتابعين للشأن السوري يتهمون تركيا مباشرة بالوقوف وراء سقوط حلب، بل ذهب بعضهم أبعد من ذلك؛ فجرى الحديث عن تسليم الأتراك مدينة حلب لروسيا، وفق اتفاق روسي تركي، واستند هؤلاء إلى الواقع العسكري الميداني الموجود في المدينة، إذ آلاف المقاتلين ومخازن الذخيرة التي تكفي أعوامًا، وعلى الرغم من ذلك سقطت الأحياء تباعًا بسرعة أذهلت النظام قبل غيره، ولاحظ الجميع بدء سقوط الأحياء التي تسيطر عليها الفصائل العسكرية المرتبطة بتركيا، فقد عجز النظام عبر سنوات التقدم شارعًا واحدًا للأحياء الشرقية الجنوبية، كحي صلاح الدين وسيف الدولة والزبدية وبستان القصر.
سقوط حلب كان ضروريًا لإجبار الثوار الآخرين على الرضا والقبول بالاتفاق، بوصفه أمرًا واقعًا لا مفر منه، وجُمِّل الاتفاق، وقُدِّم للعالم على أنه نصر سياسي كبير للثورة السورية؛ إذ اعترفت روسيا بالفصائل العسكرية مفاوضًا شرعيًا؛ ما يعني نفي صفة الإرهاب التي اتهمهم بها الروس طويلًا، وكأن هدف الثورة الحصول على شهادة حسن سلوك من الجانب الروسي!
قد يُعدّ الاتفاق من الناحية الشكلية ناجحًا، وخطوة إيجابية نحو الحل السياسي الذي ينشده السوريون قبل غيرهم، لكنّه -وللأسف- يبدو فاشلًا في المدى المتوسط والبعيد، وربما يفشل في المدى القريب، كما يتضح من عدم الالتزام به، فالميليشيات الطائفية المرتبطة بإيران لا تفتأ تخرق الهدنة في وادي بردى والغوطة وريف حلب الجنوبي والغربي وريف إدلب، وغيرها من المناطق.
يُدلّل رفض الدول الكبرى دعم الاتفاق في مجلس الأمن على فشله، فمجلس الأمن أخذ علمًا به، دون تبنيه أو دعمه، فقد قرأ هؤلاء ما بين السطور وأهداف روسيا، وهم أذكى من أن يقعوا في مصيدة الدب الروسي.
ما يهمنا -هنا- انعكاساته على الثورة السورية، لا التجاذبات السياسية الدوليّة، فالاتفاق وصفة مركزة لشق الصف الداخلي لقوات المعارضة؛ إذ أخرج “فتح الشام” من الهدنة على الرغم من ادعاء الثوار أن مناطق “فتح الشام” التي يستحيل فصلها عن مناطق قوات المعارضة المشمولة بالهدنة؛ ما يُبقي على ذريعة قصف كل المناطق المحررة.
الاتفاق الروسي التركي لا يختلف في جوهره عما سبقه؛ إذ يُدخل الثوار في نفق مظلم من المفاوضات غير واضحة المعالم، على الرغم من ادعائه مرجعية جنيف المختلف حول تفسيرها أصلًا.
سيحاول الروس عبر الاتفاق الاستفادة من قوات المعارضة في الحرب ضد “داعش”؛ حرب ادّعاها الروس وفشلوا فيها فشلًا ذريعًا؛ فخلال فترة تدخلهم استعادوا تدمر فحسب، لكنهم سرعان ما خسروها.
سبّب الاتفاق حالًا من البرود بين قوات المعارضة و”جبهة فتح الشام”، إن لم نقل حالًا من الخصام، وهذه الحال، إضافة إلى الحرب مع تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، عاملان سيعقبهما تلاشي قوات المعارضة رويدًا رويدًا، فلم يعد ثمة هدف ثوري، وستبدأ بعد ذلك مرحلة الصدام بين ما تبقى من الجيش الحر والإسلاميين، مرحلة تطحن الطرفين، وتضعفهما؛ ليظهر -بعدئذ- الأسد الشخصية الوحيدة الجديرة بحكم سورية، وتكون معركة الموصل قد انتهت، وتدخل الميلشيات الشيعية حينئذ إلى سورية، بذريعة محاربة “داعش”، كما صرح قادة من تلك الميلشيات.
مخطط واضح المعالم وقع في شركه الأتراك عن حسن أو سوء نية، وأوقعوا فيه قوات المعارضة. وبذلك تستمر تركيا في أخطائها السياسية المُدمرة للثورة السورية، على الرغم من الأعباء المادية والعسكرية والسياسية التي تحملتها. إذ لم تدعم قوات المعارضة دعمًا منظمًا يوحد بندقيتها، كما تحاول في “درع الفرات” حاليًا، ولو فعلت ذلك في 2012 لسقط الأسد، وما ظهرت “داعش” قوة ضاربة تنتزع السيطرة على المناطق، الواحدة تلو الأُخرى، واليوم أعماها هاجس الخوف من الأكراد الذين يتلقون الدعم من الشرق والغرب، وهاجس القلق من عداء الغرب لها، فأرادت المضي بعيدًا مع روسيا؛ ليأخذها الروس إلى حيث يريدون، لا حيث ينبغي أن تكون.
أخذت روسيا حلب مجانًا، ولم تأخذ تركيا مدينة الباب بعد. وكان بإمكان تركيا أن تأخذ حلب كاملة إلى جانبها، لا الباب وحدها، لو دعمت “ملحمة حلب الكبرى”.
القرار الدولي عمومًا، والروسي – الأميركي خصوصًا، منعا تركيا من تقديم هذا الدعم، فلم يكن مسموحًا للمعارضة، ولا سيما “جيش الفتح” السيطرة على حلب، فذلك سيجعل من “جيش الفتح” قوة عسكرية ضاربة على مساحة جغرافية وشعبية عريضة، وعندئذ ستفرض “جبهة فتح الشام” نفسها لاعبًا أساسيًا، وسيتفاوض معها العالم، وإن عدها تنظيمًا إرهابيًا، تمامًا مثل “حزب الله” و”حزب العمال الكردستاني” وحركة “حماس” و”طالبان”، فالعالم لا يعترف إلا بالأقوياء. أما الأتباع والضعفاء فلا يتفاوض الكبار معهم، ولا يسعون لإرضائهم، وهذا ما حصل في الاتفاق الروسي – التركي؛ إذ ناب الكبيران (الروس، الأتراك) عن النظام والمعارضة، وكان الكبير الأول أبرع في إخراج الاتفاق الفاشل لصالحه، وفشله يعد نجاحًا له، إذ أخذ الروس ثمنه “حلب” سلفًا، وحققوا مرادهم في تشظية الثوار ثانيًا.
[sociallocker] [/sociallocker]