الفـعل الثقافيّ من راهن السوق إلى دموية الجماهير

5 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2017

8 minutes

حاتم محمودي

سيجدر بنا ونحن نسلّط الضوء على راهننا الثقافي، أن نقدّم تأبينًا فلسفيًا إلى الإنسانية من خلال إدانة راهنها الدمويّ؛ إذ إنّ ما يطفو على الساحة الفنّية لم يتجاوز محاولة تجميل ما يحدث من فضائع، أو محاولة استثمار أطنان من لحوم القتلى في مدن كثيرة، ذلك من خلال انخراطه في لعبة السّوق، ولهثه وراء الحدث، حتّى أنّ معايير الإبداع لم تعد تتنزّل -جماليًا- إلا من خلال القدرة على البيع والشراء، وهذا ما بشّر بمولد الذوق المبتذل “الكيتش” شكلًا للفنّ الهابط، يلبّي الأغراض التجاريّة من خلال أعمال رخيصة لا قيمة لها، لكنها مبهرجة سلفًا، تدّعي جاذبيّة العامّة لها، غير إنّها جوفاء وضحلة، ما جعلها لا تنسجم إلا مع الأذواق البرجوازية الفجّة، حتّى أنّ مردّه  إقامة ما يمكن أن نصطلح عليه “صناعة الثقافة” إذ يجري تقنين الفنّ وصوغه بما يلائم استجابته لحاجات السوق.

إنّ حالة الرّاهن الإبداعي –على جميع المستويات الثقافية- بوصفها انعكاسًا لهذا القحط الاقتصادي والاجتماعي، بعد خصي المسارات الثوريّة للجماهير، تمكّنت من جعل جشع السّوق يطال ما هو ثقافيّ بما في ذلك الفنّ. وأمام مخاتلة كهذه رأسماليّة سيصبح من سديد القول أنّ ثقافتنا الآن –كما تؤكدها المهرجانات والمنجز المسرحيّ والروائيّ والشعريّ والسينمائيّ- تحوّلت إلى محض أسواق تتكدّس فيها البضائع “الأشياء”، مثلها مثل السائد في العالم برمّته. وهنا -من باب الإقامة النظريّة- سيصبح من سديد النظر الإشارة إلى ما ذهب إليه المفكّر الإيطالي “أنطونيو نيغري” برفع الرّائع ونقله من الجماليّ/ الشكليّ إلى العمليّ، وذلك من خلال ضرورة أن تكون عمليّة اشتغال الفنّ رهينة الفعل الجماهيريّ، بغية كنس السلطة وبهرجها الإستيطيقي.

لقد ساهمت السّوق في جعلنا نعيش إزاء يباب أنطولوجيّ وعصر لا إنساني، وفي هذا الإطار، يدفعنا “نيغري” إلى التساؤل عن ماذا بوسع الفنّ أن يفعل: هل يتخّذ حالة “الخردة الإبداعية” كسلاح في يد الحكّام والبرجوازيين والأصوليين، أم عليه تجاوز خواء السّوق وبذاءة محتواه، كي يتخذ صفة الجمال والاقتدار في ذات اللحظة، على أن يُدحض ما وصفته الباحثة التونسية “أمّ الزين بن شيخة المسكيني” بالمسوخ الفظيعة التي قذفت العالم في الفراغ.

الأحرى بنا – قبل هذا التساؤل-  الإشارة أوّلا إلى المغزى أو الدافع الذي جعل “نيغري” ينحو بالرائع إلى ما هو عمليّ ويمنحه للجماهير الغاضبة، وفي تقديرنا إنّ ذلك عائد إلى “الكوجيتو الديكارتي” الرّاهنيّ “أنا أشك إذن أنا موجود” وقد تحوّل إلى “دوغما” جزمية، من شريعته أنّه قدّم وثيقة تأبين ميتافيزيقي للفنّ عبر القول بأفوله؛ مثلما ذهب إلى ذلك “بنيامين”، إذ تحوّل إلى محض بضاعة مكدّسة في الأسواق على يد أولئك السلطويون –التوصيف هنا سياسيّ واقتصاديّ بحت-، أمّا جماليًا فهو بهرج إستيطيقيّ، يدفع -بالضرورة- إلى إعادة إحياء هذا الفنّ على يد الغاضبين والثوار، ما يجعل وظيفة الفنّ أشبه باللعب “النيتشويّ”، وأكثر قدرة على الانخراط في صفوف الجماهير، بما هو فعل ثوريّ وجماعيّ تحرّري.

إذا كان ثمّة إجماع حول تأصيل نظريّ كهذا الذي قدّمه لنا أنطونيو نيغري، سيحقّ لنا التساؤل عن ماهيّة تلك الجماهير، وعمّا إذا كانت وجدت بالفعل، وما يزيد من جراحات هذا التساؤل هو أنّنا نفتحه ونحن نتحرّك في سياق عصرنا الحاليّ، بما يحمله من حروب وثورات مبتورة وانفجارات علميّة ونزعات دمويّة، حتّى بات هناك رهط من الرّجعيين يؤمن بأفول أحلام الثوّار وخيبة انتظاراتهم، لتعثّر مهمّاتهم الثوريّة في بلدان عديدة، ما يجعل من ثنائيتي الجمال والاقتدار (الرائع والعمليّ) كما تحدث عنه هذا الفيلسوف، محلّ شكوك من زاوية إمكانية تحقّقها من عدمه.

يبدو أنّ هذه الغابة الفلسفيّة التي تحرّك في تخومها مفهوم الرّائع، محفوفة بغير قليل من الفخاخ، ما يجعل من رهانات القبض عليه في حقل يروم الإجابة عن سؤالنا، المتمثّل في البحث عن ثقافة بديلة، أمر في غاية الصعوبة، ولكن ألا يمكننا القول بأنّه ثمّة ضرب من الفرجات يؤدّيها جمهور ما -هو جمهور غاضب-، بما يقرّبه إلى مفهوم الجموع، كما لدى أنطونيو نيغري؟ والحال كذلك كما سبق وشاهدنا العديد من النماذج كالاعتصامات “الثورية”/ السياسية في تونس أو مصر وسورية، وغيرها من البلدان التي شهدت أكثر من حراك اجتماعي شاسع؟

لقد عوّدنا المسرح -على سبيل المثال لا الحصر- على بيع مسكّنات للجمهور وتحقيق ضرب من ضروب التطهير له، وكأنّه يهبه بعض أقراص مهدّئة ومشتراة من الصيدليات السياسيّة، ولكنّه الآن عاجز على ذلك، خاصّة بعد موجة المنعطفات الثوريّة. فقد أوجد هذا الجمهور تعبيرات فنّية جديدة يحقّقها بنفسه من خلال أشكال فرجويّة لا تخلو من إبداع فنّي جديد، خارج المهزلة الثقافية السائدة والخاضعة لمنطق الهياكل وسياسات الإنتاج الفنية، فما يحدث من إرهاب وتجويع وقمع وتشريد أثناء اشتغال الثورات وسيرورتها، استثمره المثقفون في أعمالهم الفنّية بغاية الربح، بينما واجهته الجماهير باعتصامات وإضرابات وجدت عنوانها في أشكال فرجويّة جديدة: وهنا سيحقّ لنا التذكير -من باب تقويض المغالطة “الأرستقراطية” الكبرى- إن المسرح وجد تعبيراته الجنينية الأولى في الاحتفالات الجمعيّة الغاضبة، إلا أنّ التصادم الطبقيّ جعل من تلك الأرستقراطية تحمله إلى القاعات وتقنّنه، وهي -بهذا الشكل- احتكرته خارج أنساق التثوير الاجتماعي منذ العهد الإغريقي حدّ هذه اللحظة، ولا حاجة لتأكيد ذلك بتكرار ما أكّده الباحث المغربيّ “خالد أمين” في كتابه “الفنّ المسرحي وأسطورة الأصل”.

يبقى أن نتساءل الآن ما إذا كانت ثمّة جماليّة واقتدار في تلك الفرجات، بما هي تحقّق الرّائع العمليّ/ الجماهيريّ، وهو أمر لا نجده إلا من حيث الارتباط بالنزعة الثورية، بغاية كنس البهرج الاستيطيقيّ الرّأسماليّ؛ إذ ما يحرّك شكوكنا الآن، هو ذلك المنعطف الفرجوي المخيف. فبعد سياسات تهميش الثورات وخصيها وغدرها، نبتت زراعة الرّعب من خلال انتقال الجماهير من فعل المقاومة إلى فعل الإرهاب، كما لو أنّها كانت فريسة سهلة لترتدّ عن ثوراتها وتتحوّل في جانب منها، إلى محض كائنات معدّة للفتك والقتل، أمّا الثوّار الحقيقيون فهم الآن قلّة في هذا العالم، ما حوّل الرّائع العمليّ إلى كارثة دمويّة: تشغّلها خيام الموت وبيارق إله ظلاميّ وجماهير حصدت خيبة هويّاتها فقرّرت التنكيل بثوراتها وحكامها.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]