الكرْب يكشفُ العدم

5 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2017

6 minutes

وائل رضوان الناصر

وأنا أقرأُ مجموعة الكاتب السوري عبَّاس علي موسى القَصصيَّة “شامبو برائحة التفَّاح”، لا أدري لماذا بقيتُ محاصرًا بمقولة الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر: إنَّ الكرْب (القلق) يكشفُ العدم.

هذا الكرْبُ والذي هو عبارة عن حالة وجودٍ شعوري في الذَّات البشريَّة من عدمٍ مُفكَّرٍ فيه، هذا الشعور المُعاش الموجود بقوَّة الكرْب (القلق)، هو الذي كشف حضور العدم.

وانطلاقًا من مقولة هايدجر تلك ومقولة الشاعر الفرنسي رينيه شار: “إنَّ فنَّ الكاتب يكشف عن عالمٍ يظلُّ أبدًا في حاجةٍ إلى الكشف”. أستطيعُ أنْ ألِجَ إلى شخوص عبَّاس علي موسى التي تعيش برزخًا شبه دائم، إلى حين دخولها في مخاض الوجود، لذا فإنَّ الكرْب الكاشف للعدم هو الذي يخلق هذا البرزخ الذاتي الوجودي، ليكشف العدم الذاتي الماورائي للشخصيَّة القافزة عبر مخاضٍ (كربيٍّ) طويل، مثلًا: في قصَّة “شامبو برائحة التفَّاح” والتي هي عنوان المجموعة وتقاطعها مع قصة “كيف أمسيتُ أعمى” نلاحظ أنهما تمثِّلان الحمَّام الوجودي للبشرية كلها، وليس لبطلة/ بطل القصَّة. إنَّ دخولهما في مرحلة العمى الوجودي (الحرِّية) وعلاقة هذا الدخول بالزلَّة الوجودية لآدم؛ حين أكل من الشجرة وهبط بسببها من الجنَّة إلى الأرض، ليتجذَّرَ في الإنسان مفهوم (خلافة الأرض) ورائحة شامبو التفَّاح المُضمَّنة لجنس الشجرة التي أكل آدم من ثمرها، مع أنَّ الروايات التي حدَّدت جنس الشجرة غير صحيحة والصحيح أنَّ الشجرة بقيت على إطلاقها ولم يحدَّد جنسها وعليه فإنَّ خيال الكاتب يمكنه أن يعطي لهذه الثمرة ماهيتها بعيدًا عن النص الديني.

هذا الدخول في العماء الوجودي هو الذي أطلق سراح حاسة الشمِّ الوجودية أمام رائحة التفَّاح التي كشفتْ العدم المخبوء في ثنايا الرَّائحة! إذن هذا العماء الوجودي هو الكرب الكاشف للعدم.

تدخل الحمَّام تُقفل الباب برتاج المجتمع، تخلعُ ملابسها بعد أن دفنتْ خوفها خلف مقبض الباب وفي اللَّحظة والحال يتقافز في داخلها/ برزخها الكربيُّ المسجون في قفص الغريزة ورائحة التفَّاح، كربها الجنسي هذا، في علاقتها مع جسدها يكشف عدمها، العدم الذي يكشفه البخار الكثيف لوجودها المعبَّأ برائحة التفاح الآدمي.

في قصَّة “نوايا حسابيَّة” يتجلَّى الخوف الدَّائم المرسوم على هيئة فأر، هذا الخوف/ الفأر يُريدُ أكلنا، أكل تراثنا المخبوء في الكتب، الكتب التي تريدها الثَّورة، هذا التراث الذي ارتقى إلى مستوى تقييم الحقائق في هيرمونيطيقا جورج هانز غادامير، يصبح مادةً للأكل، الفأر الآكل هو كربنا الذي يكشفنا، يكشف عدمنا المخبوء في أمَّهات الكتب.

في كتب التراث تجد الثَّورة (البرزخ) ولكنَّكَ لا تستطيع أن تثور بها بنفض الغبار عنها فحسب، لأنك تكون بذلك كمن نفض الغبار بغبار؛ إنَّما بإحيائها قلبًا وقالبًا لتولد في رحم فكرٍ حرٍّ وجديد. فخوفنا هنا (كربنا) كشف العدم النَّائم في خزائننا الوجوديَّة في محيط هذا العالم.

في قصَّة “المدينة مخنوقةٌ” الخوف والخوف المضاد، البراءة في مواجهة القبح، حين نفض العصفور جناحيه للحرِّية اصطدم بالسَّواد. كربهُ في المدينة أمام براءة الرِّيف هو الذي كشف انزياح الجمال/ العدم في ضفَّة المدنيَّة.

في قصَّة “أزرق” يتجلَّى الكرْب الوجودي الكاشف للعدم في أعمق حالاته، الذَّات البشريَّة لا يكشفها إلَّا الكرْب (القلق).

(الموت السينمائي) هو العدم الموجود، بطل القصَّة موجود وجود تملُّك، ينام حتى يجنَّ على صوت المنبِّه ليفيقَ ثمَّ يذهبُ للعمل لينام ويجنَّ على صوت المنبِّه ويفيق، وهكذا إلى آخر هذا الاستهلاك الذاتي في الوجود التملُّكي.

وفي محاولةٍ منه للدخول في الكينونة بعد أن يجنَّ على صوت المنبِّه، يفيق ويُقرِّر ألَّا يذهب إلى العمل، هذا الكسر احتفل بأمنياتٍ عديدة غرِقتْ جميعها في الوحدة الملقاة في البيت.

وفي اللَّيل يطرقه الفراغ -فراغ الوحدة المحرِّك للكرْب الكاشف- حيث تنكشف التفاصيل الصغيرة لذواتنا في الغرف الصغيرة.

“شامبو برائحة التفَّاح” المعنى التأويلي لهيولانا في الوجود الأوَّل -بحسب المفهوم الديني- ورائحة التفَّاح هي رائحة الطرد من الوجود الهيولي الأوَّل، و”الشَّامبو” هو لغسل الوجود الثاني في مقابل “الرَّائحة” الجاذبة للوجود الأوَّل.

* الكتاب: شامبو برائحة التفَّاح

الكاتب: عبَّاس علي موسى

النَّاشر: مؤسَّسة جارجرا للثقافة، 2016

مجموعة مكوَّنة من 22 قصَّة قصيرة، على امتداد 56 صفحة من القطع المتوسِّط.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]