أفلام أميركية تُدين أميركا:”تحدّي بلدك يحتاج إلى بطلٍ حقيقي”


يندرج فيلما “الآنسة سلون” للبريطاني جون مادن، و”الشوط الأول من الجولة الطويلة لبيلي لين” للتايواني آنغ لي، في سياق سينمائي أميركي، يُمكن وصفه بـ “إدانة سينمائية” لأحوال الولايات المتحدّة الأميركية، في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والإعلام، وأنماط العيش أيضاً. ورغم أن المخرِجَين غير أميركيَّين، وأن الأول بينهما يعمل قليلاً في إطار النظام الإنتاجي الهوليوودي ـ الأميركي، إلاّ أن مفهوم الإدانة السينمائية لأميركا ينطبق على فيلميهما الجديدين، لكون إنتاجهما أميركياً، وهذا كافٍ لتحديد جنسية الصنيع السينمائيّ.

 

كشف المستور

والإدانة ـ إذْ تفضح جوانب من آليات العمل العام في مؤسّسات الدولة، أو في القطاع الخاص، الأقوى حضوراً في قيادة البلد، داخلياً وخارجياً ـ تكشف تفاصيل عديدة، يُمكن أن تكون مُتَداولة في الأوساط المعنيّة، أو معروفة لدى متابعين ومهتمّين. لكنها، سينمائياً، تستفيد من خبرات العمل الإنتاجي، المنفضّ عن النظام الإنتاجي الهوليوودي الأساسي، ومن هواجس ثقافية وفكرية وجمالية وفنية لمخرجين، يأتون إلى أميركا من أنحاء العالم، لاشتغالاتٍ سينمائية مختلفة، فيُصبحون ـ أحياناً ـ من أبرع السينمائيين العاملين على إعادة قراءة التاريخ الأميركي، أو على تفكيك الراهن الأميركي، أو على كشف المستور (أو بعضه، على الأقلّ) في أحوال البلد وناسه.

لن يكون فيلما جون مادن وآنغ لي وحيدين في هذا المجال. السينما الأميركية حاضرةٌ، دائماً، في المشهد السجاليّ، وسينمائيون أميركيون أو عاملون في أميركا يُقدّمون قراءات متنوّعة، تتناول شتّى أنواع الحياة اليومية. فمن الحملة الماكارثية (خمسينيات القرن الـ 20)، إلى الحرب الأميركية في العراق (بدءاً من عام 2003)، مروراً بحروب فيتنام وكوريا والصومال، من دون تناسي السياسة والاقتصاد والمال والأعمال، وشركات الأدوية والأسلحة والتأمين والعقارات، وسلوك الإعلام والصحافة (سلباً وإيجاباً)، وغيرها؛ تعثر السينما الأميركية على كمٍّ هائل من المواضيع، فتُنتج الكثير منها، مُقدِّمةً إلى العالم كلّه نموذجاً عن معنى الكشف والمواجهة والفضح، عبر نتاجٍ إبداعي راقٍ.

بهذا المعنى، يُمكن القول إن أميركا تُنتج أفلاماً تُدينها. وهذا لن يحجب واقعاً مناقضاً تماماً، إذْ تُصدِّر هوليوود أعمالاً تمجّد البطل الأميركي، وتُعلي من شأن الإدارة الأميركية، وتدافع عن قيمٍ تعتمدها بحسب أهوائها (فتأتي السينما لتؤكّد أن القيم معمولٌ بها، في حين أن الواقع مغايرٌ)، وتروي سِيَر نجومٍ في المجالات المختلفة للحياة والعمل، ممن يؤمنون بقوّة أميركا، وبراعتها في “الدفاع” عن الديمقراطية، وفي نشرها، في أنحاء العالم، متغاضين عن “أساليب” هذا الدفاع، وذاك النشر.

كما أن هذا كلّه لن يُخفي أمراً حقيقياً، يتمثّل في الحملات، الشرسة أحياناً، ضد بعض من “يتجرّأ” على فضح النظام الأميركي، الذي يقود البلد في يومياته.

 

صراعات

مع هذا، تبقى الإدانة السينمائية فاعلةٌ ومؤثّرةٌ وناضجةٌ، غالباً، في متابعة أحوال هذا البلد وناسه، بفضل اشتغالات سينمائيين، يكترثون بالجانب السينمائي البحت في أفلامهم، أولاً؛ ويتوغّلون في الخفايا والمبطّن لفضحه، ثانياً؛ ويهتمّون بتقديم “رواية” أو أكثر، غير تلك “الرسمية”، عن بلدهم وتاريخه ومآثره، ثالثاً. فيلما جون مادن وآنغ لي ينضويان في السياق نفسه، إذْ يتناولان موضوعين أساسيين في الحياة الأميركية اليومية: “جماعات الضغط (لوبي)” وآليات عملها وبعض خفاياها وكواليسها ومشاغلها (الآنسة سلون)، وصورة البطل الأميركي في ساحة الوغى، المتحوّلة إلى أداة ترويج إعلامي لتغطية مصالح تجارية ـ اقتصادية ـ إعلامية مختلفة، وإنْ على حسابه كإنسان وكفرد وككيان حيّ (الشوط الأول من الجولة الطويلة لبيلي لين).

يختار جون مادن (1949) موضوعاً حسّاساً لمعالجته. يغوص في دهاليز “جماعات الضغط”، كاشفاً آليات عملها، أو بعضها على الأقلّ. يُحدِّد معالم أساسية في سرده حكاية الآنسة إليزابيث سلون (جيسيكا تشاستن)، أحد أشرس وأنجح وأمهر العاملين في هذه الجماعات، جاعلاً الشخصية مرآة وحيدة للمبطّن، ومانحاً هذا العالم المخفيّ منافذ تتيح له إطلالات فاضحة لوحش يُديره، غير آبه بأي قيمة ـ أخلاقية أو إنسانية أو معنوية أو فكرية أو ثقافية أو تربوية ـ غير القيمة الوحيدة التي يُتقن احترامها: المصلحة الضيّقة لذاتٍ فردية، أو لجماعةٍ تريد تأمين مصالح خاصّة بها، فتلجأ إلى “جماعات ضغط”، تتلاعب بالجميع، من دون استثناء، لتحقيق المبتغى، وإنْ يكن مصير الآنسة سلون مغايراً للصورة المتداولة عنها طويلاً.

ويختار آنغ لي (1954) شخصية المجنّد بيلي لين (جو آلوين)، الذي يتحوّل إلى بطل أميركي يُتقن كثيرون استغلاله في بلده، بعد انتشار صورة فوتوغرافية له وهو يُنقذ الضابط المسؤول عنه، في لحظة مواجهة عسكرية عنيفة في بغداد (2005). اختيار لي لهذه الشخصية تحديداً مدخلٌ إلى عالمٍ تُنتج هوليوود، مراراً، أفلاماً متنوّعة عنه: مآزق الجندي الأميركي أثناء خوضه حروب أميركا خارج البلد، وهي مآزق تضعه في مواجهات حتمية مع ذاته، ومع قيادته وعائلته ومجتمعه. والمجتمع، هنا، موزّع على الناس والمؤسّسات والإعلام. مع آنغ لي، يعود بيلي لين إلى بلده، زمن الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، من “حقول القتل” في العراق، متوَّجاً كبطل قومي، قبل أن تبدأ مآزقه المختلفة، هو ورفاقه، بالظهور أمام نفسه، وأمام الآخرين.

مفاهيم متناقضة

وإذْ يُطلَب من الآنسة سلون الترويج لمشروعٍ يُدافع عن حقّ الفرد الأميركي باقتناء السلاح، ويرفض تعديل هذا الحق، المنصوص عنه في الدستور، رغم ارتفاع حدة جرائم القتل بسبب هذا الاقتناء؛ فإنه يُطلَب من المجنّد بيلي لين أن يتغاضى عن مآزقه الذاتية كلّها، من أجل صورة أنقى لبلدٍ مُثقل بالانهيارات المخفيّة. ومع أن إليزابيث سلون تنتقل إلى “المعسكر النقيض”، كي تواجه أزمة أخلاقية تعتمل في روح البلد، فإن بيلي لين يعجز عن التحرّر من وطأة الخراب الروحي، فيعود إلى أرض المعركة، رغم أن لشقيقته كاثرين (كريستن ستيوارت) رأياً مخالفاً تماماً، إذْ تقول له: “أنْ تُدمِّر بلداً آخر، أمرٌ سهل. لكن تحدّي بلدك هو ما يحتاج إلى بطل حقيقيّ”.

الصراع حول مسألة السلاح الفردي ـ التي تتناولها أفلامٌ أميركية عديدة، في محاولة سينمائية لكشف مكامن الخلل في التفكير الأميركي وأنماط العيش ـ يُشبه الصراع حول مفهوم البطل ومعناه، وموقعه في بيئته. فالسلاح الفردي جزءٌ من ثقافة “أرض الأحلام”، والبطولة الفردية رمزٌ من رموزها الأساسية، التي تُمجَّد دائماً لأغراضٍ عامة، تخدم مصالح الدولة في المرتبة الأولى، ومصالح قطاع خاصّ أقوى من الدولة ومصالحها. واقتناء السلاح الفردي أقوى من قيادة سياسية، خاضعة لدستور يكفل أموراً كثيرة لأبناء البلد، وهي (الأمور) ليست إيجابية دائماً. في حين أن العنف اليومي الداخليّ لن يدفع الإدارات الأميركية إلى اتّخاذ إجراءات جذرية للتخفيف من بطشه، أو لإلغائه (إنْ يكن إلغاؤه ممكناً)، لأن لشركات الأسلحة “أجندة” لن تسمح لأحدٍ أن يمسّ بها، وهي مهتمّة بالبيع والتسويق الداخليين، كاهتمامها بالبيع والتسويق الخارجيين.

هذا كلّه يتطلّب أمرين اثنين: وجود “لوبي” قادر، دائماً، على ممارسة وظيفته بمنع أي اختراق لتلك الـ “أجندة” (الآنسة سلون)؛ وبطل يناضل من أجل بلدٍ وناسه، ومن أجل ثقافة ومبادئ وأفكار تُبنى عليها أميركا، وإنْ يكن واقعها مغايراً أو مناقضاً لها (الشوط الأول من الجولة الطويلة لبيلي لين).

هكذا، تكون الإدانة السينمائية مساحةً للتأمّل في أحوال بلدٍ، يبدأ ـ مع مطلع العام 2017 ـ مرحلةً جديدة من تشنّجاته وتمزّقاته، وجنون إدارته وقياداته.

 



صدى الشام