وماذا عن الحرية؟


غسان الجباعي

باتت المطالبة بحرية التعبير والإبداع وممارسة الحقوق السياسية والثقافية، حقًا مشروعًا وجوهريًا -لا بد منه- في أي مجتمع يتطلع إلى الحداثة والتنمية والازدهار. فمن أجلها قامت مئات، إن لم نقل آلاف الثورات عبر التاريخ، وفي سبيلها سالت دماء الملايين من عشاقها والمكافحين من أجلها. وهي قبل هذا وذاك حق مشروع وأصيل من حقوق البشر، تحدثت عنه جميع الشرائع السماوية والأرضية. والسؤال: هل تعتبر هذه الحرية منجزة، فور حصولنا عليها؟ وهل تكفي –وحدها- لتحقيق الهدف منها؟ وماذا بعد نيلنا لحرية التعبير؟

لو فرضنا أن السلطة تكرمت علينا ومنحتنا هذا الحق، أو أخذناه عنوة -كما نفعل الآن- فكيف سنمارسه؟ هل نستطيع بعدها أن نفعل ما نريد وكيفما نرغب؟

يظن بعض المبدعين -وكذلك السياسيين- أن حرية التعبير التي تمنحها السلطة كافية لخلق مناخات حقيقية للفكر والثقافة والإبداع. والحقيقة، إن علاقة الثقافة بالحرية، أعمق من هذا بكثير، وأشمل، لأن هذه المهنة هي –أولًا- نشاط بشري جماهيري، تهتم بالشأن الاجتماعي والسياسي والأخلاقي، ويمكنها –ثانيًا- أن تشكل رأيًا عامًا –إن استطاعت-؛ ثم إن الحرية حرّيات متداخلة، بعضها ما يسهل الحصول عليه بقرار سياسي، وأكثرها -كي يتحقق- يحتاج إلى نضال طويل دائب ومعقد. والسلطة سلطات متداخلة -أيضًا-: سياسية ودينية واجتماعية ومادية وأخلاقية…الخ. فماذا عن الآخر (الجمهور)؟ هل يحق للمبدع أن ينال حرية التعبير التي تأتيه من خارجه، ولا يكون حرًا من الداخل، وحرًا مع الآخر؟ وهل يحق له أن يتحول إلى مستبد جديد محترم، أو شيخ ثقافة، أو طريقة، ينصّب نفسه أستاذًا لجميع القيم الإنسانية والوطنية!؟

الإبداع -عمليًا- يحتاج إلى ثلاث مواجهات مع الحرية، هي في الواقع مواجهة واحد؛ وأقول (مواجهة) لأن الحرية حزمة كبيرة من التحديات والالتزامات، فهي: مواجهة مع السلطة السياسية من أجل انتزاعها، وهي مواجهة مع الذات (حرية المبدع) التي تنبع من داخله (ممارسة). وهي مواجهة مع الجمهور المتلقي (الشريك الثقافي) أو المستهلك للإبداع؛ أي حرية الآخر (الوسط الثقافي وجمهور الثقافة والناس). وهي –في نهاية المطاف- الميزان والمقياس الذي يحدد نوع وطريقة التعامل بين الثقافة وجمهورها. إنها شرط أساس ولازم لممارسة السلطة السياسية والسلطة الثقافية سوية، لأن حرية المبدع “لا تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين”؛ بل تبدأ معهم، فالمبدع -والمثقف عمومًا- لا يستطيع أن يكون مستبدًا برأيه متعاليًا على هموم وجراح شعبه، رافضًا لحقوقهم، أو أن تكون لغته مباشرة تلقينية أو تعليمية عقائدية، كما لا يمكنه أن يتكبر على النقد، أو يفرض رأيه على الآخرين من “برجه العاجي” ويقمع بقية الآراء. فإذا كانت السلطة أداة قهر، فالثقافة أداة إقناع. وقبل هذا وذاك، لا يجوز -طبعًا- أن يكون مستواه المهني هابطًا؛ وهنا بيت القصيد، لأن العمل الإبداعي -بطبيعته- عمل متقن ومدهش. فالمبدع إن كان شاعرًا مثلًا، عليه أولًا، أن يتقن الشعر. وإذا كان إعلاميًا أو فنانًا (ممثلًا أو مخرجًا أو مصمم رقص أو موسيقيًا)، فعليه أن يكون ديموقراطيًا مع مجموعته المهنية، قبل أن يطالب السلطة بحرية التعبير. الحرية ليست مقياسًا للسلطة السياسية فقط، إنما هي –أيضًا- مقياس للثقافة والإبداع.

ثمة مثقفون وسياسيون ليسوا أحرارًا بطبعهم، لأنهم رهنوا أنفسهن لسيد آخر ويلعبون بملعب آخر، غير الثقافة والسياسة. وهم ليسوا ديمقراطيين، لأنهم يحاولون فرض آرائهم على الجمهور، ويرفضون أي رأي مختلف، ويشجعون الناس كي يصبحوا مثلهم.

ومن هنا جاء شعار صحيفة جيرون (سورية التي تشبهنا) هذا الشعار الذي يعني أن سورية ستكون كما نكون نحن، تشبهنا وتشبه شعبنا وثورتنا وأهدافها المشروعة في الحرية والكرامة. الحرية الملتزمة بقضايا الناس وأخلاقهم وتضحيتهم بدمائهم، من أجل بناء مستقبل مشرق لهم ولأبنائهم.




المصدر