ياسينو.. إلى تلك "الواو" في اسمك

الممثل الوحيد الذي احتفظ باسمه الحقيقي أثناء التمثيل، خصوصاً من تلك المجموعة الكوميدية الذهبية التي تنتمي إلى ستينيات القرن السوري الفائت، كان ياسين بقوش. غير أنه لم يحتفظ باسمه وحسب، بل وكذلك بشيء مما يمثله كشخصية تعيش على الهامش. شخصية ذلك النادل في المقهى، الذي كان عليه أن يتحمّل صفعات قبضاي المقهى أبو عنتر، ومقالب "الملعون" غوار، وتنكيل "معلمته" فطوم حيص بيص، صاحبة أوتيل "صح النوم" الذي يعمل فيه. النادل الذي يشبه اليوم زملاءه المعاصرين في مقاهي دمشق، من أكراد ونازحين ومهمشين على أطراف المدن.
 قبل أن نرتاد المدينة ومقاهيها ونقابل ممثلين وممثلات نتحدث لأصدقائنا عنهم، كان هو الممثل الوحيد الذي وجدناه في كل العشوائيات في وقت واحد، داخل كومة من الحديد يسميها سيارة. لطالما رأيته على طريق حي القدم، وحيّ غزال، وطالما قال آخرون إنهم رأوه في اليوم نفسه في خان الشيح، والسيدة زينب، واليرموك. صحيح؛ عمّ كان يبحث الرجل؟ ولماذا كل هذا الحَوَمان؟
قال أحد الأصدقاء إنه سأل ياسينو ذات مرة لماذا يسكن مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، فأجاب ياسينو "لأنني فلسطيني"، ويمكن الافتراض أنه أجاب بأنه كردي في حي ركن الدين، ونازح في الحجر الأسود.
قبل أن تصيبه قذيفة الأمس في حيّ العسالي، الذي يسيطر عليه "الجيش الحر"  بالكامل، كان ياسينو قد ظهر قبل أسابيع قليلة على حاجز لـ "الجيش الحر" في مخيم اليرموك، وقال فيه إنه ما زال يسكن المخيم الذي نزح معظم سكانه، ذلك يعني أن الرجل لم يكن متوجساً من "إرهابيين" في المخيم، كان هذا كافياً ليعكس وجهة نظر للرجل بما يجري من دون أن تظهر تصريحات له بخصوص الأحداث التي تعصف ببلاده. وفي الأساس كانت هامشية الرجل وفقره كافية لأن يحسبه الثوار السوريون شهيداً، فما بالك وهم يؤكدون أنه قتل بقصف لقوات النظام.
لا ندري ما مصداقية حكاية توقيف ياسينو في سجن عدرا المركزي، في ضوء إشكال مع أحد أبناء المسؤولين، كما تداولت أخبار الناشطين على موقع الفيسبوك، ولكن الأكثر تأكيداً تلك الحكاية مع نقيب الفنانين السابق صباح عبيد عندما وجه إليه الأخير شتائم لدى إجرائه معاملة لإدخال ابنه إلى المعهد الفندقي (يا لله، نادل أيضاً!). عبيد، الراحل إثر جلطة دماغية قبل ياسينو بأربع وعشرين ساعة، خرج من الهامش أيضاً، ولكنه بات من كبار موالي النظام وأبواقه، وإلا كيف يصل رجل بلا موهبة تذكر، إلا تلك التي تضعه ممثلاً من الدرجة العاشرة، ولا تحصيل علمياً، كيف يصل إلى مرتبة نقيب للفنانين، ثم نائباً في مجلس الشعب؟ في بلد يعرف الجميع كيف يصل النواب إلى سدّة البرلمان، والمسؤولين إلى كراسي المسؤولية؟
مسلسلات قليلة شارك فيها ياسين بقوش، قد لا يتجاوز عددها أصابع اليدين، كرر فيها شخصية واحدة، تحولت مع ذلك إلى علامة في تاريخ الدراما السورية. فيما لعب آخرون من الأجيال الجديدة عشرات الأدوار، ببطولة مطلقة، مرة يطلّون بدور هولاكو، ومرة بدور صلاح الدين، وأخرى بدور موحّد  القبائل العربية، وغيرها.. لكن إذا سألت وجدان الناس اليوم، سيقولون إن ياسينو أحب وأبقى.
ياسينو نمط تمثيلي محبب، كان جديراً بأن تكتب له أعمال تلفزيونية تنعشه وتستثمر هذه الشخصية على نحو مبدع، لا كما جرى في أعمال سياحية سطحية تهريجية مثل "ياسين في المطبخ". وهذا ما يعكس إلى أي مدى فشلت الصناعة التلفزيونية المزعومة أن تكون بيئة خصبة للإبداع. هؤلاء الذين ينسبون "نهضة درامية" للنظام، هل يريدون مثالاً أكثر من أن النظام قتل في طريقه أجمل حقبة كوميدية سورية، وأعني حقبة "صح النوم"، "ملح وسكر"، وسواهما؟ ألا ترون أي حال آل إليه ممثلو تلك الحقبة، مثل دريد لحام (غوار الطوشة) ورفيق سبيعي (أبو صياح)؟
قاس موت ياسينو. لسان حال كثير من السوريين اليوم يقول لو كان ياسينو هنا لأحببناه أكثر، ولعضضنا أصابع الندم أننا لم نعطه حقه من التقدير. قاس موته، فهل من عزاء، وهل كنا ننتظر قذيفة بحالها تعيده أيقونة لأحلى حقبة في تاريخ الكوميديا السورية؟
راشد عيسى
25/02/2013
"المدن"