العلمانية حاجة أم فرض


سميرة مبيض

لا زالت كلمة العلمانية، مجردة، خالية من مضمونها تفرّق السوريين في كل محفل، وذلك  ليس بمستغرب حين تستخدم كلمة واحدة لوصف حالات فكرية متناقضة، تُقدّمها تيارات لا تحمل التوجهات والمنهجية الفكرية نفسها؛ حتى على مستوى الأشخاص أيضًا، فكلٌّ منها حين يناقش العلمانية يعود إلى الأنموذج المرجعي الذي كوّنه عنها عبر قراءات نظرية، أو خبرات معاشة، أو بتبني فكر جاهز رافض، أو داعٍ إلى هذا التوجه؛ تبعًا لخلفيات دينية أو سياسية.

نُعزو الأمر -دائمًا- إلى نقص في الوعي السياسي الذي أصاب مجتمعنا طوال سنوات الجمود والتحجيم الفكري الذي صنعه قالب الظلم في سورية، لكن ذلك لا يلغي المسؤولية التي يحملها العلمانيون، ويحملها -أيضًا- المستفيدون من العلمانية في التشويه الذي أصاب هذا المفهوم.

فالاختلاف جذري -هنا- بين العلمانية كما نشأت، بوصفها حاجة اجتماعية لإيجاد صيغة للتعايش المجتمعي بين الأديان المختلفة، وبين المفهوم السياسي الذي تُطرح به اليوم، ويستخدم العلمانية أكثر ما يخدمها.

فنجد على الساحة السورية ثلاثة نماذج، على الأقل، تنضوي تحت بند العلمانية، ولكنها في واقع الأمر أبعد ما تكون عن حقيقة هذا المفهوم في كونه أداة لتطوير المجتمع.

– العلمانية المسلحة

هي العلمانية المحمولة على الصواريخ والدبابات، أداتها الرئيسة هي الحرب من أجل نشرها، وتبرز مفهومًا موازيًا للاحتلال، ومُقترنًا بأعمال ونظم عسكرية استبدادية. هذه الحرب الموجهة -اليوم- ضد فئة من أتباع الدين الإسلامي، قد تكون ضد دين آخر في بعد جغرافي وزمني مختلف.

في أبعد ما يكون عن مفهوم العلمانية، يبدو هذا التوجه متطرفًا، مُعززًا للفتنة المذهبية ومضطهدًا لفئة دينية محددة، مُدّعيًا نشر العلمانية، في حين أن حوامله العسكرية تستخدم المرجعيات الدينية، وتستخدم الخطاب الطائفي لتحفيز الصراع ضد من يعدّه عدوًا دينيًا. بإمكاننا -هنا- أن نجزم بأن هذا الأنموذج لا يمتّ إلى العلمانية بصلة، وادعاءاته التي تحملها دولً غير علمانية تخفي تطرفًا لا يقل خطرًا عما هو مُعرّف بالتطرف المذهبي، بل إنه هو صانع ومولّد لتطرف مقابل؛ بحكم العنف والاضطهاد.

– العلمانية العدوانية

هي العلمانية التي تُستخدم ذريعةً لمهاجمة الدين، وشماعةً تُحمّل عليها كل أنواع الشتائم والسخرية، ونجد حاملي هذا النهج يهاجمون -دائمًا- الدين المختلف عنهم، أو الطائفة المختلفة، في حين يبقى دينهم مقدسًا منزهًا عن العلمانية.

هذا الأنموذج من العلمانية نابذ، لا يحشد حوله الا الكره والانتقام اللفظي بالرد بالمثل، في دوامة بلا مخرج.

– العلمانية السطحية

هي العلمانية التي انحصرت في المظاهر دون أي اقتراب من قيم العلمانية الحقّة، فتقيدت بطريقة الشرب والأكل واللباس، وخصوصيات الحياة التي باتت معيار علمانية الشخص من عدمها.

في تقزيم غير منطقي لهذا المفهوم، تبدو العلمانية السطحية كأنها وُجدت لتحارب كل الأخلاقيات التي فرضتها الشرائع الدينية بصورة غير سليمة، مُخربّة بنية المجتمع، ومُقيدة حريات أفراده؛ فكل ما سبق يدخل حصريًا في نطاق الحرية الشخصية التي لا تخضع لشروط تُفرض على الإنسان باسم العلمانية، بغاية نقض -فحسب- شروط فرضها الدين باسم الدين.

بعيدًا عن هذا الانحراف في المفاهيم، فإن العلمانية هي أداة لتطوير للمجتمع:

لم ينتقل مجتمع ما إلى النظام العلماني، إلا بسبب الحاجة الماسّة إلى فكر اجتماعي، يسمح بتعايش مكونات مختلفة ضمن مجتمع واحد، في إطار مكاني وزماني واحد، تكون السلطة فيه على مسافة واحدة من جميع المواطنين، دون مفاضلة في منشئهم الديني، ويستطيع المجتمع عبر هذا المفهوم الانتقال من مرحلة الاقتتال بين مكوناته، وسيطرة فئة مذهبية واحدة على جميع مفاصل الحياة، إلى مرحلة عادلة تفسح المجال لتطور المجتمع وازدهاره.

من أهم وسائل العلمانية النظام التعليمي؛ إذ يصبّ التأسيس التعليمي للأجيال الناشئة في المجتمع العلماني في مصلحة تمدّن وتحضّر وتقدّم المجتمع، فالطاقات البشرية توظَّف لبناء المجتمع علميًا واقتصاديًا وقيميًا، بخلاف التأسيس التعليمي الديني الذي يصبّ في مصلحة الدين فحسب.

في العبور من الدولة الدينية إلى الدولة العلمانية، يكون الدافع لهذا الاختيار هو الاستمرارية، وتحسّن شروط حياة الأجيال التالية، وانتقالها من حالة الاقتتال التي تستنزف طاقات المجتمع، إلى حالة الاستقرار والتطور التي تضمن العدل والمساواة، في مقابل التخلّي عن العصبية المذهبية في إدارة الدولة، فالأداة الرئيسة في ضمان استقرار مجتمع يضم تنوعًا كبيرًا، كالمجتمع السوري اليوم، هو دولة علمانية، لكن ليس في ما يُفرض علينا من علمانية مسلحة وعدوانية وسطحية، إلا مزيدًا من التخريب والدمار. حاجتنا الماسة إلى علمانية العدالة والاستقرار التي تُحوّل هذا التنوع إلى غنى ونعمة، وهي حاله الطبيعية، وليس إلى نقمة كما هو حالنا اليوم. الدولة العلمانية القادرة على حماية حقوق جميع المكونات بالقانون، وتفرض العقاب على كل من يدعو إلى الكراهية والتطرف والاضطهاد والعنف ضد الآخر؛ بسبب دينه، وتفرض العقاب على من يهين ويُشهّر بدين الآخرين، وتفرض العقاب على من لا يحترم عادات وخصوصيات الثقافات الأخرى.

هي العلمانية التي عبرت بدول كثيرة من اقتتال، ذهب ضحيته الملايين، إلى دول الحرية والإخاء والمساواة، لم يُظهر هذا الأنموذج الاجتماعي -إلى اليوم- تصدعات تؤدي إلى انهدامه، ويُثبت استقرارًا واضحًا، على الرغم من أنه ليس أنموذجًا جامدًا، فهو ما زال يتطور تطورًا مستمرًا، بوصفه انعكاسًا لتغيرات المجتمعات التي أقيم فيها.

تقودنا هذه المعايير إلى التمعن في كيفية التأسيس لفكر علماني منقذ يتأقلم مع مجتمعنا، تُوضع أسسه اليوم؛ ليتاح له أن يتطور ويُثبّت نفسه في عمق المجتمع، من خلال تأمينه الاستقرار للمكونات المتعددة فيه، ومن ثم؛ يأخذ الشكل الأمثل للوسط المحيط به، وحينها يصبح بديلًا تلقائيًا عن أي فكر آخر يفتقر إلى هذه المميزات؛ فما علينا أن نُدركه في سعينا نحو الفكر العلماني، هو أنه مسيرٌ يتطلب تتاليًا زمنيًا، بدايته اليوم، وحصاده للأجيال المقبلة.




المصدر