عطية عوض: جنرال برتبة إنسان!


مصطفى الولي

لمخيم خان الشيح سحره الخاص على نفسي، بناسه وموقعه وعطائه. والوجع الذي ألحقه بنفسي القصف الإجرامي بطائرات بوتن وبشار، وتفريغه من سكانه على متن “الباصات الخضر” المشؤومة، أعاد صورة العميد “عطية عوض” بكل بهائها وشموخها أمامي، فهو ابن المخيم، وتاريخ حياته حاضر أبدًا في الدراما الفلسطينية، والتراجيديا التي يعيشونها في سورية اليوم، ومنذ ما يقرب من ست سنوات.

عاش عطية عوض الإنسان الصادق والمنتمي لفلسطين تلك التراجيديا، بوفاء لا تردد فيه، فكان أن دفع حياته ثمنًا لتأكيد شرفه الوطني والإنساني والعسكري، وهو ما جلب عليه الحقد من جلادي نظام الأسد الأب، فاعتقلوه وأخفوه وأنكروا مكان وجوده في أقبية الموت، وبعد سنوات طويلة سرَبوا الخبر لأسرته بموته، ولم يعلموهم عن مكان جثمانه.

عطية عوض الإنسان – الجنرال، لم يقم بعمل ضد النظام، لكن جريمته التي أودت بحياته، أنه لم يقبل تنفيذ أوامر النظام، وفي ذلك تطابق بينه وبين مخيم خان الشيح، وأبناء فلسطين المقيمين في سورية عمومًا. وهكذا هو التماهي بينهما، عطية ومخيم خان الشيح، ولذلك؛ يدفع المخيم ثمن رفضه الانخراط في الجريمة التي يرتكبها النظام ضد السوريين، وكان عطية عوض قد رفض تنفيذ الأوامر لارتكاب جريمة قتل أبناء شعبه في لبنان 1984.

نعم لخان الشيح سحره منذ الطفولة، كنت أرى الكون اتجاهين فقط، من المزة القديمة نزولًا إلى دمشق، أو صعودًا نحو فلسطين. هكذا قال لي أبي قبل دخولي إلى المدرسة. ولو أنني عرفت باكرًا أن “الشيح” تلك النبتة العطرية التي تعيش على الرغم من قسوة الأحوال الطبيعية، ويعشق رحيقها النحل، كنت انتميت إلى عالم الخلية الحقيقية المنتجة، عالم النحل، ووفرت كثيرًا من سني عمري التي أفنيتها “بالخلايا الحزبية”، لأكتشف متأخرًا أنها أعشاش دبابير.

خان الشيح كان خلية حياة وعمل وعلم وكفاح، وأنجب من بين صفوفه طاقات علمية وأكاديمية رفيعة، ورجالًا مناضلين لا يعرفون النفاق والتخاذل، ولا يسعون لمكاسب باسم هويتهم الفلسطينية. في خان الشيح كانت الفصائل تتبارى على من منها سيفوز بكسب انتماء العدد الأكبر من أبنائه إلى جانبها، فليل المخيم كان ندوة حوار ونشاط مستمرين، وأعراس المخيم كانت في الطبيعة والهواء الطلق يراها العابرون منه إلى كل اتجاه، ومع أهازيجهم وخبط أقدامهم بالدبكة الفلسطينية، يشارك نهر الأعوج بحراسة أفراحهم، وكانوا يحرسون عطاءه في كل الفصول. وكان طريقي إلى النحل من هناك، مع خلايا حقيقية، وخان الشيح جدير بطريق النحل.

كان الشاب عطية عوض أنموذجًا من هؤلاء الرجال. كان المخيم في 1967 يستقبل تجمعات المتطوعين لنجدة الجبهات الأمامية، وحين أعلن حافظ أسد الانسحاب الكيفي من الجولان، صار المخيم محطة استراحة ومواساة للجنود الذين كانوا يجهلون ما جرى وكيف جرى، فهاموا على وجوههم يبحثون عن محطة ما، ريثما يعرفون وجهتهم، فكان المخيم محطتهم. في تلك الحرب 1967، كان عطية عوض، الضابط المتخرج للتو، مقاتلًا في جبهاتها، وأصيب بساقه وفكه. وفي حرب 1973، كان مقاتلًا صلبًا في قاطع تل الفرس -كفر تفاح- تل الشعار، وأصيب في تلك الحرب أيضًا، وتعالج خارج سورية. كان مثل مخيمه -خان الشيح- خلية عمل وإنتاج وعطاء بصمت. أما شجاعته التي عرفها الجميع في بيروت خلال غزو 1982، فكانت تضرب بها الأمثال، وكان تقدم الإسرائيليين على المحور الذي يقود المواجهة فيه، وبحسب نشرات الأخبار العسكرية الإسرائيلية، يجري حسابه بالأمتار، وهو ما حصل في منطقة ميدان سباق الخيل ببيروت.

هذا الرجل عجزت إسرائيل عن النيل منه، فنال منه نظام حافظ أسد؛ لأنه رفض خوض المعركة ضد قوات المقاومة الفلسطينية في شمال لبنان 1983، وقالوا إنه كان يسرب البرقيات الصادرة من الأركان السورية لقيادة ياسر عرفات؛ ليحمي المجموعات المقاتلة من خطر الهجوم والقصف. وكان عطية الإنسان – الجنرال قد اعتذر من ياسر عرفات حين طلب منه استلام قيادة أركان القوات الفلسطينية، ومغادرة جيش التحرير، وأعلن أنه سيخدم قضيته من موقعه ضابطَ ركن في “جيش التحرير الفلسطيني”.

عطية عوض وخان الشيح المخيم متماهيان ولا ينفصلان. اغتال الدكتاتور حافظ أسد عطية الإنسان منذ 1983، ولم يكشف عن استشهاده في أقبية علي دوبا إلا في العام 2004. واليوم يغتال الدكتاتور الابن مخيم خان الشيح، وأرسل باصات الترحيل الكريهة، بينما كان المخيم محطة لباصات تنقل المقاتلين إلى الجبهة في حربي 1967 و1973. ولذلك؛ جاءه العقاب ودمِرت بيوته وقتل من قتل من أبنائه وشرِد من شرد، والباقون يعمل النظام لاجتثاثهم، حتى لا يعود خلية حياة وعطاء، ولتزول رائحة عطر نبتة الشيح من فضاء الطريق الأقرب إلى فلسطين. ولكيلا يستيقظ جبل الشيخ كل صباح، ويبتسم لأطفال المخيم وهم في طريقهم إلى مدارسهم.

هل كان عطية عوض الإنسان بحدسه وتجربته يعلم غدر النظام الذي حل بالمخيم فتمرد على أوامر الطاغية منذ وقت مبكر؟ ولذلك أفرغ النظام حقده الفاشي على الناس الآمنين المسالمين، المتشبثين بالبقاء في أقرب مسافة من فلسطين، وهم يحلمون بقطع المسافة بسرعة البرق نحو قراهم في سفوح الجليل وسهول طبريا عندما يتجسد حلمهم الذي لم يفارقهم، حلم استعادة الحق بوطنهم من الغزاة، وما كانوا يحسبون أن الطغاة سيكملون جريمة الاجتياح الإسرائيلي لقراهم ومدنهم، فكانت جريمة الطاغية أفظع وأكثر هولًا، وترحيلهم من المخيم جاء بصورة أبشع، حيث الحصار والتجويع زيادة على القتل والترويع، الذي قام به نظام عائلة الأسد، يفوق ما تعرضوا له في 1948، يوم الإعلان عن قيام دولة إسرائيل.

عطية عوض الجنرال – الإنسان، شاهد مبكِر على عداء النظام لفلسطين التي استخدمها ستارًا لخداع الوعي الوطني والقومي لتثبيت دكتاتوريته في عهد الطاغية الأب. وخان الشيح الذي ترعرع فيه، هاهو في 2016 يُسجل إدانته المطلقة لزيف الادعاء “بالممانعة والمقاومة” في عهد الدكتاتور الابن، الذي يكمل وظيفة إسرائيل بوحشيته لتبديد وإنهاء القضية الفلسطينية، فتدمير المخيمات وترحيل أبنائها علامة واضحة على تكامل الجريمة الإسرائيلية مع جريمة نظام الاستبداد الذي يمزق سورية، ويقضي على حياة الناس فيها، والفلسطينيون يدفعون مع إخوتهم السوريين ثمن جرائمه.




المصدر