on
على جدار الجامع الكبير في مدينة الباب
هذا النص هو تتمة نص أبو رسول النجار، ويتضمن شهادة ’أحمد الأسير‘، الذي رافق أبا رسول النجار وسجناء آخرين في عملية الهروب الشهيرة في شهر آذار عام 2015، من سجن المحكمة الاسلامية التابعة لداعش في مدينة الباب بريف حلب الشرقي.
وقفَ أبو رسول النجار بعد صلاة الفجر يخطبُ بالمساجين، ولكن ليس كأي درس ديني، بل كانت خطبةً أعادت الحياة إلى تسعين نفساً: «الهروبُ سيكون في الليل، ولن يهرب أي سجين من مدينة الباب إلا مع سجين من خارج المدينة، فكل بابيٍ سيرافقه سجين غير بابي، سنخرج في الليل لأنه يوجد منع تجول، ونحن بمظهرنا هذا نشبه الدواعش، بل أكثر من الدواعش أنفسهم. لا ركض، أمشوا بدون خوف، وفي أمان الله».
أنهى أبو رسول خطبته ثم ودّعنا بعضنا، وسلّم كل واحد مِنّا وصيته لغيره تحسباً. رفعنا آذان العشاء وصلّينا صلاتنا الأخيرة بعد سنة ونصف من الموت البطيء الذي عشناه، ثم طلبَ أبو رسول من أحد السجناء أن يفحص الطريق، ويتأكد من عدم وجود أي عنصر على سطح المبنى.
استطاعَ أبو رسول أن يجتاز النافذة، أما نحن فقمنا برمي قطعة من السجاد الذي كنا ننام عليه في المهجع على الأرض خارج السجن، خوفاً من سماع صوت خبطة أقدمنا، إذ كان لصوت أقدام أبي رسول والمجموعة التي كانت معه في آذاننا وقعٌ كصوت المدفع.
رميتُ السجادة، وتدليتُ مسبّحاً بمجاميع الآيات التي حفظتها طيلة فترة اعتقالي: «وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً». لمست قدماي الحافيتن الأرض، وبالرغم من برودتها شعرتُ بسكينةٍ ممتزجةٍ مع خوفٍ وقلق، لا يقطعه إلا رؤية حاجزٍ عليه علم الثورة.
لوهلةٍ تمنيتُ لو أنني كنتُ أنانياً فأترك مجموعتي وأنجو بنفسي، ولكننا تبايعنا على عهد الأخوة. نفذت كل المجموعة الخاصة بي من النافذة، مشينا نحو الشوارع الفرعية في المدينة، ومعنا شابٌ من مدينة الباب من عائلة تمرو. كان القمر بدراً في منتصف السماء، رأينا بعضنا كأننا في النهار، أو هكذا خُيّلَ لنا؛ لو أنني نبيٌ أو من أصحاب المعجزات لكنتُ غيّبتُ القمر حتى نجاتنا! تمنيتُ لو أن القمر غير موجود، أو لو أن الناس يعتمدون فقط على أشعة الشمس من أجل الرؤية! لكن لولا وجود القمر لتم اختراع الإنارة منذ عهد قابيل وهابيل نظراً للحاجة الملحة.
أخذَ ضوءُ القمر يسلّي تفكيري، ثقتي بـحسن تمرو كانت كفيلةً بأن لا أفكر بشيء، فهو ابن مدينة الباب ونحن على ثقة به، صديقُ السجن قلّما يغدر. «ألزمُ غرزه»، هكذا قلت لنفسي أثناء المشي خلف حسن، لدرجة أنه حتى إذا بصقَ على الأرض بصقت مثله، حتى وصلنا إلى دار أقربائه.
«هم من الثوار، وشاركوا في المظاهرات، لن يخبروا علينا ’الدولة‘ حتى إن لم يستقبلونا»، قالها حسن أثناء طرق باب منزل أقاربه، بابٌ أسود حديدي اللون مقلّمٌ بلون أبيض على شكل مثلثات، وينعكس عليه ضوء القمر. تمنينا لو كنا حماماتٍ كي نطير ونحط على سطح المنزل. لم يفتح لنا الباب أحد، فتوقفنا عن الاستمرار بطرق الباب خوفاً من أن يفتح أحد الجيران بابه علينا.
هذا ما حصل، سمعنا صوت «قبضة» لعنصرٍ تابعٍ «لهم» يقول إن ثمة استنفاراً عاماً. ركضنا خوفاً من عنصر التنظيم هذا، واتخذنا من جدران المنازل سنداً لنا، خفنا من أن يكشفنا ضوء القمر، فاحتمينا أيضاً من القمر بالجدران. ليست كل الجدران مبايعةً للتنظيم، فهذا الجدار ثوريٌ وهو الآن يحمينا، ولو أنه معهم وهم أصحابُ المعجزات الخطيرة، لانقضَّ علينا.
ركضنا متجهين إلى أحراش الزيتون خارج المدينة في المزارع المحيطة بها، كرهتُ القمر وشكله ولونه. القمر معهم ومبايعٌ لهم بخلاف الجدار، ولو أن فيه من الخير ذرةً لسحبنا إلى عنده إلى أن ينتهي عناصر التنظيم من البحث عنا.
بدأت أصوات الرصاص تقترب منا، أو هكذا ظننا. وصلنا قرية قديران التابعة إدارياً لمدينة الباب من الجهة الشمالية، لم أستطع أخذ شهيقٍ كامل ولا حتى زفيرٍ كامل، كمية الهواء التي كنت أحبسها في صدري كانت كافيةً لتحويل برميل ماء أزرق إلى قطعة ثلج. ركضنا دون أي تخطيط، حتى حسن ركض وطلب منا إن كان باستطاعة أحدنا العثور على أي منزل ولو كان لا يوجد فيه أحد للاختباء به.
«فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم، وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم»، طيلة العام ونصف العام من السجن ومعايشتي لكتاب الله، ترجمتُ كل تصرفاتي وفقاً للمقاربات القرآنية التي عشناها، كيف لنا دخول منزل ليس لنا؟!
رأينا بستاناً «حوش» من الزيتون، وقفنا، التصقنا بالتراب. حاولتُ قدر المستطاع أن أحفر بجسمي جورة أدفن نفسي فيها. إن لم أستطع النجاة، فيكفيني أنني من اخترتُ الموت، ودفنتُ نفسي بنفسي.
سياراتٌ مسرعةٌ تتجه أمام أعيننا لنصب حواجز على مداخل المدن، وبالأخص الطرق المؤدية للمناطق «المحررة»، والطرق المؤدية إلى الحدود السورية التركية. رشقاتٌ متقطعةٌ من الرصاص تخترق مسامعنا، أين الله منا؟ أقسم إننا لمظلومون! لا هم يسعون في عمليات تبادل الأسرى لنا ولا هم يقتلوننا، يتلذذون برؤيتنا مكدسين فوق بعضنا البعض في المهاجع. هربوا من سجن أبو غريب كي يحولوا قرانا ومدننا إلى أبو غريب كبير، وكما فعلوا بهم في العراق يريدون أن يفعلوا بنا. لو لم نكن موجودين في سجونهم لما كانوا هم موجودين مع أنفسهم. مراهقون، خوارج، مخابرات، سفهاء الأحلام، كل ما هو مضمورٌ في قلبي عنهم قلته دفعة واحدة، وفي حال تم إلقاء القبض علينا يكون هذا ما استفدته من عملية الهروب فقط.
مرَّت ساعات الليل كأنها العام ونصف العام من الاعتقال، لم نستطع النوم، زحفنا وراء بعضنا البعض، عسانا نجد جداراً نحتمي به. أصوات الرصاص تقترب وتبتعد عنا، ولكننا كنا نشعر أنه يصيب قلوبنا من الخوف. نرتجف، نجلس القرفصاء، نحدق ببعضنا، نشدّ على أيدي بعضنا. صار الصباح وطلعت الشمس، أصوات الحيوانات سمحت لنا بالتحدث بصوت منخفض. يضرب حسن بحجارة الأرض ما وراء الحائط عسى تضرب الحجرة الحمار أو الديك، وذلك كي نتحدث بما يجب فعله تزامنا مع صوت الحيوانات.
ينظر إلينا طفلٌ مستيقظٌ حديثاً من النوم، يرانا، يفرك عينه بيده ويصرخ:
«يابوووو يابوووو… من هذول هين».
يخرج الأب ويرانا، نقرر قتله إن لزم الأمر، أو تهديده. ظنَّ أننا شبابٌ هربنا من معسكرٍ للتنظيم، كأولئك الذين كان يراهم كلَّ فترةٍ كم قال لنا لاحقاً. دخلنا الغرفة، لم نستطع شرب الشاي، كنّا ننظر إلى بعضنا. طلبَ منا التحدث، فبعدما كسر ابنه الملتحق بمعسكرات التنظيم تلفاز المنزل، كان قد ملَّ من الحديث مع نفسه واستذكار الأحاديث القديمة مع زوجته وأولاده: «صرنا نحجي مع الحمير، الله وكيلك».
نظر أبو محمود، أحد أفراد مجموعتنا، في وجهه وحرَّكَ حواجبه كعادته، استثار الحمية العشائرية لدى الرجل:
«إننا عرب دُخَّلٌ عليك، وإن كنا قتلة عليك حمايتنا، فإننا مستجيرون بعد الله بك».
أشار الرجل بسبابته وإصبعه الوسطى على رقبته: «على هي إن صابكم شي، بس منو أنتم؟».
سردَ كل منا بعض القصة له بشكل متناوب، باللاشعور أخذت يدي كأس الشاي، شربتُ منها فاستوقفني مشيراً بكف يده، ثم طلب من زوجته تسخين الشاي، بل أكد عليها أن تقدم لنا شاياً جديداً وترمي بـ «حشيشة البراد» هذه في الزبالة.
دخل إلى الغرفة بعدما طلب من زوجته الشاي، تحدث معنا وهو واقفٌ: «شوفم، رقبتي صارت مثل رقبتكم وأني كرهان الأرض يلي يمشون عليها، هذول من وين جونا ما عرف، بس بعد ما تطلعون باب الدار، إن كنتم ولد أصل تنسون حتى شكل باب الدار».
وافقنا، قمنا نقبّل رأسه وهو يمتنع ويبعد رأسه، توضأنا، صليّنا، حدثناه عن هول السجن والتعذيب، وقلنا له إننا لو كنا في مكانه ولدينا شابٌ لجعلناه يبايع لو كذباً كي نأمن شر التنظيم، ومع كل نوع من أنواع التعذيب الذي نخبره به، كان يعدّل من جلسته ويكبّر.
طلبَ مني بسبب بياض بشرتي التي تشبه بشرة النساء أن أحلق ذقني وشعري، وحتى شعر يديَّ وقدميّ، واتنكر بزي امرأة.
مرَّت ساعة، كنتُ كلما أغمضتُ عيني أذهبُ للسجن وأعود إلى المهجعِ وأصواتِ المساجين. بتُّ أرى أشياء الغرفة كما لو أنها أشياء المهجع! المقارنة جعلتني أنهض من الخوف، لكن أصدقائي نظروا إليَّ فجلست.
خفَّفَ أبو محمود لحيته، لبستُ الزي النسائي المفروض من قبل التنظيم. لم يعد يظهر من سوى عينيّ، الخمار هنا رحمةٌ لي بعد أن حلقتُ شعر يدي ووجهي. سرنا وحدنا، أنا وأبو محمود، تجاه قرية قبة الشيح، فيما ذهب حسن وأبو أحمد وماهر في طريقٍ آخر.
كنا وعدنا الرجل صاحب المنزل أن ننسى شكله، ولحسن الحظ أنني لم أساله عن اسمه.
يعرفُ أبو محمود قرية قبة الشيح تماماً، قال لي إنه يعرفها كما يعرف اسمه. صعدنا جبل قرية قبة الشيح بعد سير أكثر من 20 كيلومتراً على الأقدام، إذ أنه من سابع المستحيلات أن تصعد عليه سيارة ولا حتى «موتور». كنّا كلما علونا الجبل كلما تنفسنا أكثر، لم أستطع النظر خلفي خوفاً من أن يرانا أحد عناصر التنظيم، وكأن البغدادي خلفنا ينظر إلينا، ولحسن حظنا لم نشاهد أي عنصر أو سيارة تابعة للتنظيم.
وصلنا قمة الجبل وبدأنا بالنزول نحو أوتوستراد السيارات. رأينا رجلين يقفان على الطرف الأيمن من الطريق، سألانا إن كنا نحتاج أي مساعدة، كانت نظراتهما غريبة، سأل أحدهما أبا محمود: «من تكون هذه المرأة، وهل أنت محرمٌ لها؟». مشينا معهم، نظرَ أحدهم إلى وجهي نظرةً خاطفة وطلب مني التكبير، كبّرتُ من الخوف، وكبّر هو لأنهم قد عثروا علينا.
نزعَ الحجاب عن رأسي وأخرج المسدس من جيب كلابتيه، بينما ضرب الآخر أبا محمود على رأسه، وقال: «يا مرتدين… يا مرتدين، تحسبون الدولة غافلة عما تعملون، تريدون الهرب إلى تركيا؟؟». رشَّ الكلمات والتهم والضربات علينا، حلفَ أبو محمود: «والله يا شيخي مالي علاقة»، فقال العنصر: «هاااا… لعنة الله عليك… والله مو؟؟».
أنزلونا الجبل ضرباً ورفساً، نزعتُ الحجاب عن رأسي، لم أعد أرى أمامي شيئاً، اسودّت وابيضّت الدنيا في وجهي، شاهدتُ نجوم الظهر أمامي، قلتُ في سرّي: «يا أخي والله هدول الله معهم». ينظرُ إليَّ أحدهما وقد كان أعوراً، يضربني وكأني أنا من فقأ عينه. وصلنا الطريق العام بسرعة أكبر من تلك التي صعدنا فيها، أتت سيارة بناءً على طلبٍ عبر «القبضة»، وضعونا فيها وطلبوا منا أن نضع رأسنا بالأرض، وعلى وقع أنشودة «قراعُ الأسنة لحنُ الرجال»، ومع كل جملةٍ منها ضربةٌ على ظهري أو على ظهر أبي محمود. اتخذوا من ظهري وظهره منصة دي جي، رفعوا الصوت مبتهجين بنا، حتى وصلنا مدينة قباسين.
قالوا لنا إنه في حال قلنا لهم أين البقية فإنه سيتم تخفيف التعذيب عنا، لكننا لم نعترف على أي شخص ممن كانوا معنا. أعادوا الضرب بأخمص الكلاشنكوف على رأسي، نفرَ الدم مثل حنفية الماء، طمّشونا، وتم لفُّ العصبة على جرحي وعينيَّ معاً.
في مقرٍّ تابع لهم في مدينة قباسين نقلونا إلى مكيروباص، وطلبوا من السائق على القبضة الاستعجال بنا إلى مبنى المحكمة. أما أولئك الذين ألقوا القبض علينا، فقد صورونا بأجهزتهم كي يقولوا إنهم هم من ألقى القبض علينا، ثم ذهبوا عسى أن يجدوا آخرين منا.
ضحكتُ رغم الدماء النازفة على وجهي حتى غطّت عينيَّ وبللت العصبة، كم هم مراهقون وسعيدون في الوقت نفسه!!. على الرغم من أنني الضحية، ولكنها لعبة ممتعة، البحث عن بشرٍ لك الصلاحية التامة بطريقة اللعب معهم. لا يريدون قتلنا وبإمكانهم قتلنا في الوقت نفسه، بإمكانهم القول إنهم لم يجدونا، أو إننا قاومناهم فاضطروا لتصويب الرصاص علينا وقتلنا.
في بهو سجن المحكمة الإسلامية لم نكن نعرف من أين يأتينا الضرب، ولم تشفع لي دمائي التي حولت رأسي إلى كرة حمراء اللون. رفسونا من على الدرج، وكلما وقفت أجسادنا كانوا يركلونها كالكرة. لم أعلم أين أنا من كثرة الضرب، أفقدُ وعيي ثم أصحو، هكذا حتى نزعوا الطماشة عن عيني لأرى مسلخاً من الدماء أمامي. هذا المهجع في الطابق الثاني تحت الأرض، طابقٌ لا أعلم لأي شيءٍ كان مجهزاً ولمن، وهل كان فيه أحد غيرنا. نحن أسرى المعارك كنا في الطابق الأول تحت الأرض، لكن من الذي كان هنا؟
علمتُ أن من بين المعتقلين الهاربين شخصاً سلّمَ نفسه فوراً، رمى بنفسه من النافذة ومشى تجاه الباب الرئيسي للمحكمة واعترف بهروبه، ولولاه لكنتُ الآن في مدينة إعزاز أو في تركيا. الدماء تغسل الأرض والحائط، بين الوفد والوفد يأتي وفدٌ منهم يعذبنا، والجميع يسألون عن أبو رسول، أين هو؟ لأنه في حال تم إلقاء القبض عليه سيتم قتله فوراً.
طلبوا منا الوقوف والسير وراء بعضنا بعضاً، ركبنا باصاً كبيراً، وعند مدخل المدينة، أنزلونا بالخراطيم الخضراء. سرنا حفاة وراء بعضنا، منعوا السيارات المدنية من السير بالقرب منا، وعلى الصفيّن الأيمن والأيسر عناصر للتنظيم. نمشي وراء بعضنا بعضاً في منتصف الشارع، المسافة بيني وبين السجين الآخر متران، رؤوسنا في الأرض ونظرنا تجاه قدم السجين الذي في الأمام، هكذا هي التعليمات. سياراتهم كانت تملأ الشارع، هذا مصير من يخالف شرع الله.
«تم إلقاء القبض على معظم من هرب من السجن، وهناك بعض المساجين يعدون على الأصابع، ساعات ويتم إلقاء القبض عليهم»، هكذا كانت مكبرات الصوت تصدح. سرنا قرابة الساعة، ظننتُ أنهم سيستمرون بالسير خلفنا حتى يتم إلقاء القبض علينا كلنا، وأن هذا نوعٌ من أنواع العقاب.
أبو دجانة التركي، محققٌ وسجان، رأيته بين جموع العناصر، تنشط الخوف عندي ولم أعد أعلم من أي أمرٍ ينبغي أخاف؟! أبو دجانة التركي نفسه، في أول أسبوع لي في الاعتقال كنت مشبوحَ اليدين إلى الأعلى، تعلَّقَ بي وشدّني نحو الأسفل وتمرجح بجسدي، بقيت بعدها لا أشعر بيديَّ طيلة أربعة أشهر.
وصلنا إلى الجامع الكبير في مدينة الباب، أوقفونا على جدار الجامع، رؤوسنا إلى الأرض وظهورنا تجاههم ووجوهنا إلى الحائط البارد. هل يمكن أن يحمينا هذا الجدار، كما حمانا جدار الأمس من نور القمر؟! في صفٍّ واحدٍ كلنا، أخذت أصوات التشهّد تعلو بين المعتقلين، أيقنتُ أنها النهاية وهذا هو الموت، نموت وتضرب رؤوسنا جدار بيت من بيوت الله، وتطرش دماؤنا جدار الجامع.
رفعتُ رأسي ونطقت الشهادة تزامناً مع صوت الكلاشنكوف أثناء عملية التلقيم، مرّت دقيقة أو أكثر دون إطلاق أي رصاصة علينا، الناسُ حولنا تجتمع، منهم من يُكفّرنا باللهجة السورية ومنهم من يصمت، لم أنظر ولكني قدّرتُ جموع الناس وأعدادهم. خًفُتَ صوت التشهّد، ثم قالوا في جموع الناس إن من كان لديه في المنزل سجينٌ هارب، فإن حكمه سيكون حكمنا نفسه، القتل.
أركبونا الباص وعدنا إلى السجن، تمنيتُ لو أنهم قتلونا في تلك اللحظة، ربما وضعونا كي يرهبوا الناس بنا. بعدما دخلنا المهجع طلبوا منا الركض والجري في المهجع والقفز في مكاننا، لم نستطع بسبب الدماء في أرضية المهجع، ولكنهم قاموا بضربنا كي نركض ونقفز ونضرب أكف بعضنا بعضاً. قالَ لنا أحدهم إنهم تعلموا هذه الحركات في سجون «الطغاة»، ومثل هذه الحركات تساعدنا من تحريك الدم في عروقنا، وتخفف من حدة الألم، ثم جلبوا لنا حلاوةً وخبزاً.
بدأ التحقيق، اتفقنا فيما بيننا أن نلقي اللوم على الأشخاص الذين لم يتم إلقاء القبض عليهم، كما ألقينا اللوم على أحد السجانين، الذي قلنا له ذات يوم إننا لا نريد البرميل الأزرق، ولولا وجود ذاك البرميل أسفل فتحة التهوية في الحمامات لما تمكنا من الهروب. قال لنا المحقق الذي تولى مهمة التحقيق معنا: «أنتم سعَادين… مو بس مرتدين».
صدقوا كلامنا، وتم اعتقال أبو عمر السجان، الذي لولاه لما هربنا فعلاًـ وضعوه معنا لمدة ساعة عرفنا خلالها أنه معتقلٌ بسببنا. قال لنا المعتوه: «ما تخافوا الله أنتو… يخرب بيتكون خربتوا بيتي ويتمتوا إبني».
بعد شهر ونصف الشهر تم نقلنا إلى سجن منبج، أثناء النزول إلى المهجع أوقفونا، أخرج رأسه أبو عمر من كوة مهجع بالقرب من الدرج، رأينا رأسه: «سجناء الباب… إن شاء الله كلكون ذبح يا رب». أثناء سماع صوته كأن هموم الدنيا كلها زالت عنا، فرحنا بوجوده معنا، ربما هو شمتَ بنا لأننا هنا، لكن مصيري منذ عام وشهرين معروف، حكمي القتل أو ربما تبادل الأسرى، ولكنه هو اليوم سجينٌ مثلنا مثله.
تمَّ تصويرنا مع ورقة تحمل أسماءنا والتاريخ وفق التقويم الهجري، ولباس زهري من نوعية الساتان شعرتُ بالراحة أثناء لبسه. تمَّ التعجيل بعمليات التفاوض مع الجيش الحر، خوفاً من هروبنا مرة أخرى وعدم الاستفادة منا بإطلاق سراح أسراهم لدى الجيش الحر ضمن عمليات تبادل أسرى.
تم تصويرنا أكثر من مرّة، وسردتُ حادثة اعتقالي أكثر من مرة أيضاً على عناصر غريبي الأطوار كلٌّ منهم له أسئلته. منهم من يطلب مني البيعة لو سراً لـ «أمير المؤمنين»، ومنهم من يقول لي إنه سيقتلني ولو هاجرت، ولو كنتُ في كندا.
بعد كلِّ هذا السِجلّات والأيام التي تمضي، تمت الموافقة على اسمي ضمن قوائم التبادل. طلبوا مني إخبارهم في حال أردت البيعة بأن أترك رسالة لهم، وهم سيسعون بمساعدتي على القدوم إلى هنا وإعادة منزلي في القرية، بعد مصادرته السنة الفائتة بحجة أن صاحبه مرتد! قالوا لي: «لك راتب إذا بايعت وانضممت لنا، بمقدار 150 دولار و100 عن زوجتك و25 عن كل طفل من أطفالك». بعد كل سؤال لم يكن جوابي إلا «إن شاء الله سوف أرجع، وأنا في السجن تعلمت أمور ديني»، ومن هذا الكلام الذي يطربون له رغم أنهم يعرفون أنني أكذب عليهم.
ركبتُ على دراجة نارية خلف المسؤول عن التفاوض معهم، كنتُ حليق الرأس، كانت الشمس تضرب رأسي، ولم أكن قد رأيت شيئاً بعد سوى البياض والسواد، لا شيء يميز لي العالم الحقيقي.
حاولت إبقاء عينيَّ مفتوحتين كي لا أعود إلى السجن في خيالي حتى، كنتُ أرتدي كنزة عسكرية اللون، وعلى طريقٍ ترابيةٍ يشقُّ الموتور أرضاً زراعيةً يرتج جسمي وحنكي بسبب تعرجاتها. تمنيتُ حينها أن أكون كشجرة الزيتون حين يهزها عمّال القطاف، فتتساقط مني ذكريات وأحداث السجن كما تتساقط حبات الزيتون.
قال لي: «أنت الآن في أمان». طلبتُ منه سيجارة من نوع حمراء إن وجد معه، وطلبتُ منه كوباً من القهوة السادة، ابتسم وقال: «لاحق تعمل يلي بدك إياه».
رأيتُ علم الثورة يرفرف من بعيد، وجموعٌ من المقاتلين ينتظرونني. نزلتُ عن الموتور، رأيتُ عناصر من اللواء الذي كنت أقاتل في صفوفه، تعانقنا، ومن بين المنتظرين كان أبو رسول النجار يسألني عن البقية.