on
ما الذي تتأمله تركيا من الهدنة وما هي آفاقها؟
القدس العربي
من بداية الاحتجاجات الشعبية في سورية وتركيا تأمل أن لا تتحول إلى صراع مسلح، ولكن بشار الأسد وبدعم من إيران وروسيا اختار القمع الهمجي المسلح منذ الشهر الأول عام 2011. وبعد فشل الخيار القمعي لشبيحة الأسد تدخلت إيران عسكريا من بداية عام 2013 بعد إفشالها لمؤتمر جنيف1.
وبعد أربع سنوات من إدخال إيران جيشها وحرسها الثوري وميليشياتها الطائفية من حزب الله اللبناني والعراقي والأفغاني أدركت عجزها عن الحسم العسكري فاستدعت القيادة الروسية للقتال في سورية، بحجة أنه ينقصها الغطاء الجوي لحسم المعارك على الأرض، وأنها خلال أربعة أشهر تستطيع بقواتها الميدانية إنهاء ثورة الشعب السوري، ومن ثم فرض حل سياسي تشارك فيه روسيا، فاستجابت روسيا لدعوة قاسم سليماني بتاريخ 30/9/2015، ولكنها أدركت هذه الخديعة بعد مرور سنة من تدخلها العسكري الوحشي، وأدركت أيضا أنها لن تستطيع الحسم العسكري في سورية، وبتحالفها مع إيران لن تستطيع الحسم السياسي أيضًا، لأن الشعب السوري ينظر إلى إيران مثل نظرته إلى بشار الأسد وأسوأ منه، فبشار حاكم مستبد قاتل، وإيران دولة أجنبية محتلة وقاتلة، وبالتالي فإن إيران أصبحت عقبة في الحل وليست طرفا مشاركا فيه من وجهة نظر روسية أيضًا.
وحيث أن روسيا لم تأت إلى سورية لخوض حرب طويلة الأمد، فإنها تحتاج إلى من يساعدها في الخروج من أزمتها في سورية أولًا، وبحيث لا تخرج مهزومة ثانيًا، بل وإظهارها دولة كبيرة تساهم في حل المشاكل العالقة، بحكم نظرة الرئيس بوتين في الانفتاح على قضايا الشرق الأوسط، ومحاولته لعب دور عالمي أكبر من ذي قبل، لذلك كان لا بد على بوتين ان يجري عملية دوران في سياسته في الشرق الأوسط وفي سورية قبل غيرها، تبدأ بالاستقلال عن الدور الأميركي دون الاصطدام معه أولًا، بعد أن فقد ثقته بكل الاتفاقيات السابقة مع أميركا بشأن سورية، كما أعلن هو من قبل، وأن تبدأ روسيا بالتعاون مع الأطراف الدولية الأخرى المعنية بالأزمة السورية وفي مقدمتها تركيا والدول العربية المعنية، البحث عن حل جدي في سورية. فاستغل بوتين الاختلاف التركي الأميركي بعد الانقلاب الفاشل في تركيا بتاريخ 15تموز/يوليو الماضي وبالأخص أن روسيا ضد وصول حركة غولن إلى السلطة، فجاء التقارب أو التحالف التركي الروسي الجديد كضرورة لمعالجة أخطاء أميركا في تركيا وسورية والعراق وغيرها، وهذا التقارب وإن لم يكن بهدف معاداة أميركا، ولكنه ضرورة لوقف مشاريعها التي تثير المشاكل في المنطقة، وفي مقدمتها في سورية حيث تسعى أميركا لخلق أسباب التقسيم السياسي الفدرالي أو غيره في الحل السياسي للأزمة السورية، وهذا يعرض الأمن القومي العربي والتركي والعالمي للخطر، لأن التقسيم سوف يمد في عمر الأزمة السورية لعقود مقبلة، وليس لسنوات فقط، وهذا ليس في مصلحة العرب ولا الأتراك ولا الروس، وكذلك ليس في مصلحة الإيرانيين ولكنهم أي القيادة الإيرانية الحالية قد يكونون مضطرين إليها إذا رفضوا الاعتراف بخطأ تدخلهم بالشأن السوري، خشية انعكاس ذلك على استقرار الأوضاع داخل إيران وليس في محورها الطائفي في المنطقة فقط، فهزيمة إيران في سورية تعني هزيمة حكم الملالي في طهران.
هدنة جديدة وجديدة:
لذلك فإن تركيا تأمل من الهدنة الحالية الكثير، وإلا فإنها سوف تبحث عن هدنة جديدة وجديدة، فليس أمام تركيا إمكانية ترك المنطقة للاشتعال أكثر من ذلك، وقد دخلت تداعيات الأزمة السورية الأراضي التركية، وكان آخرها تفجير الملهى الليلي في رأس السنة، فتنظيم «الدولة» المتهم الأكبر بالتفجير هو نتاج التخطيط الإرهابي لبشار الأسد لإشعال المنطقة بالحروب الأهلية، بعد أن رفضت الدول العربية وتركيا الدخول في حروب طائفية رسميًا، فصنع محور إيران الطائفي نقيضه الطائفي لتبرير قتله وتدميره لسورية والعراق، بل ذهب فيهم التفكير الإجرامي لتنفيذ أعمال إرهابية في أوروبا لإثارة الرأي العام الدولي ضد المسلمين السنة، بافتراء أن الإرهاب العالمي هو إرهاب إسلامي سني، وأن المحور الإيراني شريك للمجتمع الدولي في مواجهة الإرهاب، وتم تسويق بشار الأسد مرات عديدة على أساس هذه الأكذوبة الكبرى، فهو صانع الإرهاب في سورية ولبنان والعراق، ونوري المالكي شريكه كان قد اتهم الأسد بدعم الإرهابيين في العراق، وتقدم بشكوى ضده في مجلس الأمن الدولي قبل سنوات.
لذلك فإن تركيا تؤيد الجهود الروسية لإبعاد إيران عن الحل السياسي أولًا، وتؤيد فرض عقوبات على الجهات التي تنقض وقف إطلاق النار ثانيًا، وتؤيد المعارضة السورية المسلحة باحترام الهدنة بما لا يهددها بالخطر أو الاعتداء ثالثًا، وتعمل تركيا مع روسيا لإنجاح مؤتمر أستانا في كازخستان في 23 من الشهر الحالي، سواء عارضته إيران أو أيدته، وسواء كانت جهود أميركا صادقة أو كاذبة في إنجاحه، فالخيار السياسي التركي دعم كل من يتولى حل الصراع في سورية بجدية وحزم، لأن التهديدات الإرهابية التي تضرب الأراضي التركية سببها الرئيسي ما وفرته قوات بشار الأسد ونوري المالكي من ظروف استفزازية لظهور تنظيم «الدولة» وأخواته، وما تسليم قوات الأسد منطقة تدمر للتنظيم قبل أسابيع إلا دليلًا على التعاون الوثيق بينهما، بعد أن أضاعت القوات الروسية جهودا كبيرة لإخراجه منها قبل أشهر، فبشار الأسد وإيران على أتمّ الاستعداد للعـمــل ضــد أمن الــقــوات الروسية في ســـورية إذا تعرضت مصالحهم للخطر، فهم يريدون من روسيا أن تقوم بوظيفة الشبيح الدولي لخدمتهم فقط، وليس دور الراعي أو الضامن الدولي لحل سلمي.
لذلك تعمل الحكومة الروسية على مشاركة الحكومة الإيرانية بالتحضير لمؤتمر استانا، حتى تلزمها بتنفيذ ما يتم التوصل إليه من اتفاقيات أمنية وسياسية، وقالت وزارة الدفاع الروسية إن الاتفاق مع المعارضة السورية حول الهدنة والتحضير لمفاوضات السلام في أستانا تم بشكل مشترك مع تركيا وإيران دون مشاركة الولايات المتحدة، بينما وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو قال إنه بحث مع نظيره الروسي سيرغي لافروف مسألة مشاركة واشنطن في محادثات أستانا المقررة، مبينا أن هذا الاجتماع المرتقب لا يهدف إلى إبعاد أو تهميش دور أحد.
ولإنجاح الهدنة فإن تركيا تعمل مع روسيا لفرض عقوبات على من ينتهك وقف إطلاق النار في سورية، وقد حذر وزير خارجيتها من أن تزايد الانتهاكات المكررة لوقف النار يهدد بتقويض مفاوضات أستانا، بعد أن تلقت الحكومة التركية تحذيرات من وفد المعارضة السورية المسلحة بأنها لن تذهب إلى أستانا ما لم يتوقف إطلاق النار من قوات الأسد وميليشيات إيران، وبالأخص من حزب الله اللبناني، الذي يستشعر الخطر من نتائج الهدنة والدخول في حل سلمي جدي، يطالب كافة الميليشيات الأجنبية بالخروج من سورية، ولذلك سارعت إيران برفض خروج حزب الله اللبناني من سورية حتى ضمن الحل السلمي المقبل، وكأن إيران هي صاحبة القرار في بقاء حزب الله اللبناني في سورية كما ذهب علي اكبر ولايتي، ولرفع الحرج عن إيران بعد تصريح ولايتي خرج مستشار الأمن القومي الإيراني بروجردي ليقول ان القوات التي دخلت بطلب من الحكومة السورية لا تخرج إلا بطلب من الحكومة السورية وليس وفق قرارات اتفاق أستانا أو جنيف.
ولإنجاح الهدنة فقط قامت الحكومة التركية والروسية بانشاء مركزي مراقبة أحدهما في تركيا والآخر في قاعدة حميميم الروسية في سورية لمتابعة الالتزام باتفاقية وقف النار وتدفق المساعدات الإنسانية، وعلى العموم فإن السياسة التركية ترحب بالجهود الروسية التي تنقذ سورية وتركيا وروسيا، وتنجي الشعب السوري من جرائم الحروب الطائفية، سواء كان ذلك خطة روسية خاصة بسورية أو ضمن خطة روسية تنفتح فيها روسيا على قضايا الشرق الأوسط كلها، فتركيا تؤيد السياسات التي لا تعرض الأمن القومي التركي للخطر، والتي فيها منافع اقتصادية للشعب التركي أيضًا، ولا تعمل لإقامة محاور دولية ضد أي دولة في العالم طالما لم تعمل هي ضدها.
إن الآمال التركية هي آفاق إيجابية لحل سياسي للأزمة السورية، تنبعث من الهدنة الحالية أولًا، ولكنها غير مضمونة لصعوبة تراجع إيران عن سياستها التوسعية في وقت قريب، بالرغم مما وجدته من سد منيع يرفض تواجدها في سورية والعراق واليمن وغيرها، فكيف لو فكرت بالتمدد إلى حيث لا يوجد لها تواجد شيعي تستثمره في دعايتها المذهبية ومقولات الاستضعاف وحقوق الشعوب والمقاومة، وروسيا أصبحت تدرك ذلك، وأن إيران لا يمكن ان تنجح في مشروع توسعها المذهبي، وبالتالي فإن روسيا لن تراهن على حصان خاسر، وإن كانت لا تسعى للاصطدام معه إلا مضطرة أيضًا، وهذا يفرض مسؤولية أكبر على الـــدول والأحزاب والشعوب العربية أن تواكب الــحــدث الذي يدفع عنها مخاطر الحروب الأهلية، وفي الأخــص في الـــدول الخليجية، ليتخذوا القرارات الصحيحة دون الالتفات إلى مؤامرات ومناكفات الدول الكبرى فيما بينهم، وإنما النظر فقط إلى مصالح شعوبهم.
(*) كاتب تركي
المصدر