“ما بعد الحقيقة” عربي قبل أن يكون غربيًا


علاء الدين الخطيب

أطلق مجمّع اللغة الألمانية Gesellschaft für Deutsche Sprache، وهو مجمع يهتم بتطور اللغة الألمانية، في عام 1971 تقليدًا سنويًا يقضي بالتقصي عن كلمة العام، التي تكون عادة الكلمة الأكثر استخدامًا وتعبيرًا عن المزاج العام السائد، وجرت عادة المجمّع أن يصدر نتائج دراسته في الشهر الأخير من كل سنة؛ فكانت كلمة العام 2015 هي Flüchtlinge أي اللاجئين، وقد وجد المجمّع أن كلمة العام 2016 هي كلمة “Postfaktisch”، ويمكن ترجمتها إلى “ما بعد الحقيقة”، واختار معجم أوكسفورد التعبير نفسه -أيضًا- باللغة الإنجليزية Post truth؛ ليكون كلمة العام 2016.

“ما بعد الحقيقة” مصطلح يُشير إلى ازدياد ميل الناس إلى تشكيل آرائهم وقناعاتهم؛ بناء على المشاعر، أكثر منها على الحقائق، في ما يتعلق بالشؤون السياسية والعامة؛ فيزداد رفض الناس لتقبّل الحقائق، وقبول حتى الكذب المفضوح؛ ما حدا بالمستشارة الألمانية، إنجيلا ميركل، إلى تسمية هذا الحقبة الزمنية بعصر ما بعد الحقيقة، حيث قالت: إن الناس لم تعد مهتمة بالحقائق، إنها تفضل الاحتكام إلى مشاعرها الفردية.

ظهر هذا المصطلح خلال العقد الأخير في أوروبا والولايات المتحدة، وقد تناولته دراسات كثيرة بالتحليل، وأجمع غالبيتها على أن عصر ما بعد الحقيقة، أو سياسة ما بعد الحقيقة، هو ظاهرة ناتجة عن انفجار الثورة التقنية والتواصلية، وبالتالي؛ ازدياد سيل المعلومات الناتج عن التوسع الهائل لشبكة الإنترنت في العالم، وعمل كثير من المؤسسات الإعلامية، بما فيها الممولة حكوميًا، في إعادة صياغة المعلومات لتضليل الرأي العام عن الحقيقة في بلادها، أو البلدان المنافسة. وقد استغل عدد كبير من السياسيين هذا الميل الشعبي المتصاعد لقبول ما بعد الحقيقة في صعودهم السياسي، مثل دونالد ترامب، ومعسكر البريكسيت Brexit في المملكة المتحدة، واليمين الأوروبي المتطرف، على الرغم من أن كبريات الوسائل الإعلامية المعروفة كانت ضدهم، وتفضح أكاذيبهم. تحليل هذا الميل الشعبي وتفسيره يحتاج إلى بحوث علمية كثيرة، يجري العمل عليها في عدد من دول العالم (عدا دول منطقتنا). إن ميل الشارع الغربي لتصديق الأكاذيب على حساب الحقائق، يرتبط بشعور غضب عام، تصاعد بعد الأزمة المالية الأخيرة عام 2008، وبالتالي؛ تزايدت مشاعر القلق حول المستقبل، هذا الغضب تجلى برفض ما يقوله السياسيون ووسائل الإعلام والنخب الغربية التقليدية. كذلك فإن تعقيد العالم في العصر الحديث صار عصيًا على فهم كثير من النخب العلمية، فكيف الحال مع العامة من الناس؛ فمنْ مِن عامة الناس يستطيع الاستماع لشرح حول اتفاقيات تحرير التجارة التي تقع في آلاف الصفحات، وتأثيرات معامل التضخم والفائدة والضرائب، وتعقيدات السوق المالية، أمام طرح سطحي، لكنه واضح يلمسه الناس مباشرة، يقول بأن سبب تراجع الحالة الاقتصادية في أوروبا الغربية هم اللاجئون والأجانب؛ ومن سيتقبل تحليلًا معمّقًا لظاهرة الإرهاب القاعدي الإسلامي، أمام طرح ساذج بسيط، يقول بأن المشكلة هي كون كل مسلم مشروع إرهابي.

أجرت جريدة الإيكونيميست الأميركية بحثًا حول ظاهرة الميل المتزايد للناس نحو منهج ما بعد الحقيقة، فوجدت -مثلًا- أن معدل جرائم القتل، وفق الإحصاءات الرسمية، في انخفاض مستمر في الولايات المتحدة، ووصل في 2015 إلى نحو 4.5 جريمة لكل مئة ألف مواطن، بينما أصر ترامب على أن معدل الجرائم وصل إلى مستوى قياسي، ووفق استطلاع أجراه معهد غالوب، وجد أن من يصدقون ترامب مصرون على أن معدل جرائم القتل وصل في 2015 إلى 70 جريمة، لكل مئة ألف مواطن. كذلك فقد ألف إريك أوليفر Eric Oliver، من جامعة شيكاغو، كتابًا حول الظاهرة نفسها بعنوان “أميركا المسحورة: الصراع بين العقل والحدس في السياسة الأميركية”، وقد رصد من خلاله زيادة تأثير ما سماه “التفكير السحري magical thinking” على التيار الشعبي اليميني الأميركي.

بالعودة إلى ديارنا النازفة، نجد أننا نعيش عصر ما بعد الحقيقة بجميع سلبياته ومآسيه، وأكثر بكثير من الشعوب الغربية، لأن الصراعات في منطقتنا أكثر احتدامًا وتنوعًا؛ فالإسلامية المتشددة القائمة على مبادئ الجهاد والولاء والبراء، والقوميات الشعبوية، ما زالوا يزيدون في حجم الكذب، من خلال استغلال المشاعر الجمعية، وتسطيح قراءة الواقع ومشكلاته، اعتمادًا على نظرية المؤامرة الكونية، وهي من أخطر أشكال ما بعد الحقيقة؛ بل حتى أن غالبية ما يسمى اليسار والليبرالية ما زالت أسيرة نظرية المؤامرة الكونية، لكن مع تجميل حداثي الشكل؛ الإضافة إلى ذلك؛ فإن صراع جميع الحكومات ضد كل الحكومات، وكلها ديكتاتوريات أكل الزمن عليها وشرب، أدى إلى ندرة أن نجد أي قناة إعلامية كبيرة أو صغيرة تقدم الحقيقة للناس. يمكننا الجزم بأن عصر ما بعد الحقيقة بدأ في منطقتنا قبل الغرب بكثير، لكن لم يتصدى أحد لرصده ومتابعته بالتحليل، ربما خوفًا من طغيان “ما بعد الحقيقة”، أو خوفًا من السلطة السياسية والسلطة الدينية، وقد يكون -أيضًا- استسلامًا للمريح من مناهج التفكير التقليدية السهلة. هذا السلوك المريض للوعي الجماعي بحاجة لدراسات وأبحاث تخصصية ورصد وجهد كبير، لكن على ما يبدو أنه حتى نخبتنا التقليدية تعيش عصر ما بعد الحقيقة قبل عامة الناس.

بالنظر إلى الحال السورية بمجهر الحقيقة، نجد أنه من النادر أن نرى مجموعة سورية ترى الحقيقة كما هي، بدون أن تغلبها المشاعر، وبالتالي؛ كثير من الأكاذيب، وأن كل مجموعة تبرر تناقضها مع الآخرين بأنهم يحملون الشرّ واللاأخلاقية في دمائهم؛ إنه تصديق الكذبة وخلق المسوغات التي تبدو منطقية من حيث الشكل. فلو دققنا في صف من يسمونهم مؤيدين؛ لوجدنا انتشارًا ساحقًا لفكرة المؤامرة الكونية على سورية وقيادتها، من الإمبريالية والصهيونية والوهابية والعثمانية، وأن ما حصل في سورية إرهاب سنّي؛ غايته قمع كل من هو غير المسلم السني؛ على الحيد المقابل، نجد انتشارًا ثقيلًا لخرافات المؤامرة الكونية أيضًا، لكن باستبدال الوهابية بالشيعية، والعثمانية بالفارسية، والإصرار على أن سبب المآسي هو كون النظام السوري نظامًا علويًا، ولولا العلويين لكانت سورية أفضل حالًا من سويسرا. وحتى ما بين الحيدين السابقين، نجد الهروب إلى أطراف تفسيرات المؤامرة من كثير من الحداثيين، فيستبعدون كلمات الطوائف، ويرمون كل اللوم على جموع العامة من الناس “المتخلفين والمتعصبين”، فنجد كثيرًا منهم لا يخفي فرحه بترامب واليمين الأوروبي المتطرف، أي المرض نفسه في التعلق بما بعد الحقيقة.

أصبحت بضاعة “ما بعد الحقيقة”، في سورية بعد ثورة 2011، بضاعة إعلامية مربحة لغالبية الإعلام الكبير ووسائل التواصل الاجتماعية، وسلاحًا فاعلًا لجميع الأطراف المتصارعة، ففيض الأكاذيب الذي جرى سوقه عبر هذه القنوات، وفضل الناس تصديقه بدلًا من رؤية الحقائق، رسخ دوامة من الأوهام، وزاد من الآثار الهدّامة للصراع الدولي فوق سورية.

مراجع:

مقال بعنوان “شكرًا ميركل على هذه الكلمة ما بعد الحقيقة”

https://www.welt.de/kultur/article159560304/Danke-Merkel-fuer-das-Wort-postfaktisch.html

مقال الإيكونوميست بعنوان “نعم، أنا سأكذب عليك”

http://www.economist.com/news/briefing/21706498-dishonesty-politics-nothing-new-manner-which-some-politicians-now-lie-and




المصدر