سورية بين مصالح الآخرين ومسؤولية المعارضة

8 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2017

9 minutes

طريف الخياط

لم يكد يجف الحبر الذي وقّعت به اتفاقية الهدنة الأخيرة، برعاية الروس والأتراك، حتى بدأت التصدعات تتكشف. لأنقرة وموسكو أسبابهما للدفع نحو تهدئة الأوضاع في سورية، ولطهران والنظام أسبابهما -أيضًا- للاستمرار في القصف والقتل والتشريد. إن كان للهدنة الحالية أن تنهار كما سابقاتها، فإن ذلك يعني أن نحت اتفاق يضمن الحد الأدنى من التوافقات بين اللاعبين، محليين كانوا أم إقليميين ودوليين، لا يزال بعيد المنال.

لقد غيّرت معركة حلب موازين القوى في سورية، كما أرادتها موسكو، لكن في المقابل؛ فإن ما بعد حلب قد لا يسير كما يشتهيه الكرملين. بقدر من المعقولية يمكننا القول إن الهدنة ليست اختبارًا لإمكانية وقف إطلاق النار في سورية، بقدر ما هي اختبار لنفوذ روسيا على النظام، والمدى الذي من الممكن أن تذهب إليه موسكو في إدارة خلافاتها مع طهران في سورية. لا يُقصد من هذا الكلام أن روسيا وإيران مقبلتان على مواجهة في سورية، لكن في المقابل؛ فإن التسليم بأن أهم داعمين للنظام هما على قلب واحد في هذا البلد الذي مزقته الحرب، أمر مجانب للصواب بكل تأكيد.

من ناحية عسكرية، لا يلوح اليوم في الأفق تهديد وجودي للنظام، كذاك الذي استدعى التدخل الروسي بعد أن سيطرت المعارضة على مدينة إدلب في عام 2015، تحديدًا بعد الهزيمة التي لحقت بالأخيرة في حلب. من جهة أخرى، فقد استطاعت روسيا الدفع باتجاه تنازلات مهمة من النظام؛ لتثبيت قواعدها في سورية على المتوسط، وضمّنت حقها في تطويرها واستخدامها استخدامًا أبسط ما يقال عنه أنه يقوض السيادة السورية. باختصار تمتلك روسيا اليوم ما يكفي من النفوذ في الشرق الأوسط؛ لاستخدامه ورقة في مفاوضاتها مع الغرب، وتستقبل عام 2017 بعين من التفاؤل، إن كان على صعيد بدء تعافي الاقتصاد الروسي، واستقرار أسعار النفط، فضلًا عن صعود اليمين في أوروبا، بما يمنح الروس فرصة ذهبية لاستغلال التناقضات بين دوله، وتقويض الإجماع الأوروبي في مواجهة تجاوزات روسيا على حدوده ومحيطه من جهة الشرق، وطبعا؛ فإن صعود ترامب في أميركا وخطابه التصالحي تجاه موسكو هو الهدية الأثمن للروس. ضمن ما سبق، فإن روسيا لا تجد نفسها اليوم مضطرة للاستمرار بالزخم نفسه في الحرب السورية، ويبدو في سعيها للهدنة الأخيرة، أنها قررت ارتداء قناع الوسيط النزيه الذي تستطيع أن تخلعه مره أخرى ما إن يدخل النظام مجددًا في دائرة الخطر.

بالنسبة لطهران، فإنها والنظام يسعيان إلى إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل عام 2011، ومهما بدت مساعي الروس للتسوية السياسية تصب في مصلحة الأخير، واستمرار دولته العميقة؛ فإن إيران ترفض ذلك، ورؤيتها للحل النهائي لا تعدو كونها توقيع صك استسلام المعارضة، عبر قبولها بالانخراط في حكومة يحكم النظام قبضته عليها، بعد القضاء على المعارضة العسكرية. توجد إيران عبر ميليشياتها الشيعية وحزب الله اللبناني على الأرض السورية، وبالتالي؛ فهي قادرة على تخريب أي اتفاق تعدّه تهديدًا لنفوذها في الشرق الأوسط الذي تشكل سورية ركنًا أساسيًا في بنيته. مع استبعاد انخراط الطرفين، موسكو وطهران، في نزاع، وتوفر إمكانية أن تُدفع روسيا؛ كي تعيد ضبط موجتها، بما يتوافق مع إيران والنظام، فإن المستقبل سيكشف المدى الذي قد تبلغه موسكو في محاولتها للضغط على حلفائها، بما يمكن عدّه اختبارًا لحقيقة نفوذها في سورية.

تجد أنقرة نفسها، على الطرف الآخر، أمام خيارات محدودة في سورية، فالجبهة الجنوبية معطلة بإرادة أميركية إسرائيلية وأردنية، وعلاقاتها متوترة مع الغرب، سواء من جهة الاتحاد الأوروبي، أو مع الولايات المتحدة على الطرف الآخر من الأطلسي، وروسيا الصاعدة تمخر أساطيلها البحر الأسود في الشمال، وتتمتع بوجود وازن في سورية إلى الجنوب. تكشف التطورات الأخيرة أن تركيا تعيد تموضعها بإحداث نوع من التوازن في علاقاتها بين الغرب والشرق، وهي بذلك تسعى خلف مصالحها، عبر تعاون انتقائي مع كل من الروس والأميركان، مستغلة عدم قدرة أي طرف على تجاهل أنها عضو في حلف الناتو وقوة إقليمية وازنة وصاعدة بدورها. ليس سرًا أن هاجس الأتراك الرئيس هو لجم الطموحات الكردية في سورية، ويبدو أن التفاهمات الأخيرة، بين أنقرة وموسكو، قد منحت تركيا ما تجنبته واشنطن حتى الآن، من دعم جوي لعملية درع الفرات في مدينة الباب، وضوء أخضر للتقدم نحو منبج، وطرد قوات سورية الديمقراطية التي يشكل الأكراد عصبها الرئيس من المدينة. بمعنى آخر، فإن موسكو وأنقرة تبدوان على وفاق مبني على احترام المصالح الرئيسة لكل طرف، وتعملان إما على تدوير الزوايا، في ما يخص القضايا الخلافية، كمصير بشار الأسد، أو أن تركيا، وبقراءة واقعية لأولياتها، قد اقتربت كثيرا من الموقف الروسي عبر تفاهمات سرية.

بعد أن ضمنت تركيا مكانها على أي طاولة تعنى بتشكيل مستقبل سورية، فإن استراتيجية دول الخليج قد تضطر لضبط إيقاعها على الوتر التركي الذي يسعى للتهدئة، بعدّ أنقرة هي الطريق اللوجستي المتوفر لإيصال الدعم إلى المعارضة. يذهب بعض الرأي -أيضًا- إلى أن السعودية المنشغلة بحرب طويلة ومكلفة في اليمن، وتعمل على خطة طموحة لتنويع مصادر دخلها، قد تجد في استمرار دعم الفصائل السورية المقاتلة رهانًا خاسرًا، ينخر فيه سوس الاقتتال الداخلي، وشكوك حول الفاعلية في الميدان، لكن ذلك يهمل الخطر الإيراني في المنطقة، الذي تتشارك الرياض في التوجس منه مع أنقرة، التي تنافس -بدورها- إيران في سورية والعراق. بناءَ على ما سبق؛ فإن المساعي التركية للتهدئة لا تعني التخلي بسهولة عن فصائل استثمرت -إلى جانب السعودية وقطر- كثيرًا في دعمها، وتوفر لها نفوذًا مهمًا في سورية، إلا أن المعارضة العسكرية قد تكون عرضة للانهيار الذاتي، إن لم تتمكن من حلحلة مشكلاتها المزمنة، قبل أن تتوفر الشروط الملائمة لطهران والنظام لإعداد العدة للقضاء عليها.

يغيب السوريون عن هذه المعادلات التي تعج بها المصالح المشتبكة والمتضاربة على أرضهم، وتستمر حال السيولة التي تجعل الواقع متغيرًا على وقع رغبات القوى المنخرطة في الحرب السورية، ومصالحها التي بات واضحًا أنها لا تأخذ مصالحهم بالحسبان. لعل ذلك ما دفع عددًا من السياسيين والمثقفين السوريين والفلسطينيين إلى صياغة نداء مطول وشامل، طالب الموقعون -من خلاله- بمراجعة تهدف إلى تصحيح مسارات الثورة، عبر نقاط، أهمها إعادة هيكلة بنى المعارضة السياسية والعسكرية، وضبط العلاقة في ما بينها، وحسم العلاقة مع التنظيمات الإرهابية في سورية، والتوجه نحو خطاب وطني بعيدًا عن الأدلجة المتطرفة، سواء كانت دينية أو علمانية، التي أقصت أطيافًا واسعة من الشعب السوري، والأهم في النداء كانت الإشارة إلى إدارة العلاقة مع الخارج الصديق، وضبط الارتهان الذي أضر بالثورة. مطالبات قديمة -جديدة، حال الخطاب الشعبوي والديني الغرائزي لبعض من المؤدلجين والمنتفعين وأصحاب الرؤوس الحامية دون تحقيقها.

في هذه اللحظات المؤلمة والقاتمة من عمر الثورة السورية، وضبابية الأفق، سواء إن استمرت الهدنة أو انفرط عقدها، يجب أن يتحلى الجميع بحس المسؤولية، ويجب أن تكون التحركات مدروسة ضمن استراتيجية مبنية على أسس عقلانية؛ لاستعادة ما يمكن من قرار سورية للسوريين، عبر استغلال تضارب المصالح بين الأصدقاء والأعداء؛ لتحقيق القدر الممكن من مصالحنا المسكوت عنها، وذلك لا يمكن أن يتم إلا بإعادة بناء مؤسسات الثورة السياسية والعسكرية والمدنية، على أسس مؤسساتية حقيقية، تعمل بتوافق وتناغم، وإلا فإن المقتلة ستستمر، وسيتمكن النظام عاجلًا أم آجلًا من إخضاع ما تبقى من البلاد عسكريًا لسلطته، وتذهب حينها جميع التضحيات سدًى.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]