الثقافة والثورة
10 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2017
محمود الوهب
إذا أردنا تقييمًا موضوعيًا لحال الثقافة السورية اليوم، فلا بد لنا من إطلالة، وإن كانت سريعة، على مرتكزاتها الرئيسة وأحوال تكوُّنها في العقود الماضية، وعرقلة نموِّها.
بداية تجب الإشارة إلى أنَّ سورية واحدة من الدول العربية التي تنطعت للمشروع الوطني التحرري القومي والتنموي، بعد التحولات الكبرى التي حدثت في ميزان القوى العالمي، بُعيد الحربين الأولى والثانية، وأعني بالتحديد، بعد قيام الثورة الشيوعية في روسية القيصرية، واستمرارها، وسيادة مفهوم أو مصطلح الثقافة الوطنية في ما يسمى ببلدان العالم الثالث. هذا المصطلح الذي يراه بعضهم مصطلحًا سياسيًا، يقابل -تمامًا- الثقافية الاستعمارية، بينما يعرّف المفكر المصري، حسن حنفي، الثقافة الوطنية بأنها: “المكوِّن الرئيس لمزاج أي شعب يستمد منها تصوراته للعالم وبواعثه على السلوك، تظهر سماتها في الأفراد وفي الشعوب، على حد سواء، في الوعي الفردي والوعي الاجتماعي والتاريخي”.
وعلى الرغم من كثرة تعريفات الثقافة الوطنية، إلا أن خلطًا كبيرًا أو تماهيًا جرى بينها وبين المذهب الفني “الواقعية الاشتراكية” الذي أتى في هذا السياق، ونظَّر له كثيرون في كل من سورية ومصر ولبنان، ومن أبرزهم محمود أمين العالم الذي استعرت عنوان كتابه “الثقافة والثورة” الصادر عن دار الهلال عام 1970. وللعالم -أيضًا- كتب أخرى في هذا المجال، منها: “معارك فكرية” عام 1986، و”في الثقافة المصرية” عام 1989، بالاشتراك مع عبد العظيم أنيس. ومن بين الذين كتبوا ونظَّروا لهذين المفهومين سلامة موسى، وشحادة الخوري، وحسين مروّة، وجلال فاروق الشريف وغيرهم.
إنَّ من يقرأ ما كتبه هؤلاء سيلمس، كما يرى الباحث عطية مسوح، التشدّد لدى النقاد، إذ يجد “أنَّ المبادئ والمنطلقات الأيديولوجيّة تحوّلت حدودًا وقيودًا”، بينما “يلمس نزعة إنسانيّة أعمق وأنقى، ورؤى فنّيّة أرحب، لدى مبدعين وجدوا في تلك المبادئ فضاء حلّقوا فيه أحرارًا”.
ويستشهد مسوح بأعمال يوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي وحنّا مينة ومحمّد عيتاني وسعيد حورانيّة ووصفي قرنفلي.
وعلى الرغم من هذا التباين فإن ما كُتب في تلك المرحلة، يؤسس لثورة ثقافية جديدة؛ تنتصر للوطن وللشعب الذي يسكنه. لقد برز كثير من المثقفين -شعراء وروائيين ومسرحيين، مفكرين وصحافيين- في بلداننا العربية المختلفة، وحفظت مقولاتهم وتبعتها أجيال امتلأت نفوسها بالآمال، تلمع أمام عيونها قضايا تحرير الأوطان وبنائها على أسس تستعيد معها الأمة ماضيها التليد، وينعم شعبها بالأمن والسلام والعيش الرغيد، ولكن هيهات؛ إذ لم تسر الأمور كما أرادت الثقافة والمثقفون، بل كما أراد الساسة الدكتاتوريون، حيث تولى شؤون كل بلد من تلك البلدان ضابط صغير، فارغ الرأس، مفعمة نفسه بالسيطرة وحب الذات، اقتنص أحوال مرحلة الخلاص من المستعمر، والاعتماد على الذات وشعاراتها، فأسس لنفسه ورغباته -عبر أفقه الضيِّق- تصوَّرًا فحواه أنَّه هو الوطن، وما عداه “بقر”، فنحَّى جانبًا المثقفين وترك أشباههم الذين أخذوا يضخّمون روحه المريضة. وللمثال فحسب، أذكِّر بأنَّ أحد قادة أحزاب الجبهة اختصر الأمة كلَّها بشخص الدكتاتور، من خلال عبارة واحدة هي:
“رجل في أمة، وأمة في رجل”! وحين قال مباهيًا أمام عدد من زملاء الجبهة/ البطانة، بأنه احتاج إلى أربعة كتب ليبين “محاسن” شخصية الرئيس حافظ الأسد”، ردَّ عليه منافق آخر، في نوع من مباراة المداهنة: وهل ترى أن شخصية حافظ الأسد تحتاج إلى أربعة كتب للتعرِّف عليها؟! (لاحظوا كيف أن الآخر سفَّه الأول لا لينتقده بل ليزايد عليه). وفي السياق نفسه يُذكر أنَّ واحدة من أعضاء مجلس الشعب، هي زوجة أمين عام أحد أحزاب الجبهة، (احتلت مكان زوجها في الأمانة العامة ومجلس الشعب)، تقول في إحدى جلسات مديح القائد، وقد جاء دورها في الكلام بعد “الشاعر” نجم الدين الصالح، لتخاطب حافظ الأسد قائلة:
“إنه لمن سوء الطالع أن أخاطب ربَّ السيف بعد أن خاطبه ربُّ القلم”، وانهالت بالمديح على رب السيف! وكلا الشخصين بعيد عما وصفا به، فلا الصالح بشاعر، ولا الأسد برب للسيف، وهو المهزوم في حرب حزيران التي أنذرت العرب أجمعين بويلات لا تزال آثارها قائمة إلى الآن.
أتيت بهذه الأمثلة البسيطة لأشير إلى أنَّ الحرية المسلوبة أو المأسورة -كما الثقافة تمامًا- هي الأساس في النهوض، سواء لجهة حرية المثقف أم لجهة حرية المواطن الذي يحدوه المثقف؛ منيرًا دربه ووسيلته إلى الحياة الأمثل والأجمل.
في هذا المجال، أودُّ الإشارة إلى جانب مهم في الثقافة وما حولها، هذا الجانب هو ما يُلحظ، مع كل حركة سياسية جديدة وجادة، يجري الحديث عن الثقافة، وتعريفها، ودورها، وفي العموم، ما لها وما عليها. فالثقافة فعل نظري يؤسس لفعل عملي ما، ومن هنا أرى أنَّ السياسيين يتهافتون على الثقافة والمثقفين في محاولات بائسة، يائسة، غايتها جرُّ الثقافة إلى حقل السياسة، وجعلها مطية لهذا النهج السياسي أو ذاك، وغالبًا لهذا الزعيم أو ذاك، على ما بين الثقافة والسياسة من تقارب وتضاد في الوقت ذاته، وما بينهما، كذلك، من صراع دائم. فمنذ الآية الكريمة: “إنما يخشى اللهَ منْ عبادهِ العلماءُ” وربما قبلها بكثير، (على اختلاف قراءة الآية، فيما يتعلق بإعراب لفظ الجلالة “الله”، وما يرمز إليه من تدبير لشؤون الكون، وما ومن فيه، بين الفاعلية والمفعولية، ولا أعتقد أنَّ الأمر يتغير كثيرًا في الدلالة على أهمية الثقافة وتقدير المثقف عمومًا، ولإكبار قيمة العقل في الحالتين). أقول مذ ذاك، وربما قبل ذلك بكثير، والمعارك قائمة على أشدِّها، بين الثقافة والسياسة؛ الثقافة بوصفها العين المتفحصة لحال المجتمع والإنسان، منزَّهَةً عن أيِّ غرض، أو مصلحة ما، والسياسة بوصفها نهجًا لتدبير شؤون الناس -أيضًا- مع ميل دائم لمصالح أساطينها، وللقوى الأكثر تحكمًا بشؤون المجتمع والناس، وبخاصة شؤون المال والاقتصاد الذي يخصهما. ومن هنا يمكن ملاحظة سعي السياسة والسياسيين على الدوام إلى نوع من الهيمنة على الثقافة، لاحتوائها، ووضعها في خدمتها، أو خدمتهم! ولطالما عانى أرباب الثقافة الحقيقيين -أيضًا- من السياسيين الذين يجنحون إلى ذلك، وما أكثر الشواهد عبر التاريخ عمومًا، وتاريخنا العربي الإسلامي -قديمه وحديثه على نحو خاص- مليء بالأمثلة، فمن تقطيع ألسن إلى بتر أياد إلى سلخ جلود إلى موت بطيء في سجون، هي قيعان آبار سحيقة لا نور فيها، ولا ماء ولا طعام، إلى حرق للمثقف وما كتب…!
أما في العصر الحديث، فترى إلى المثقف الجاد، المثقف الحر، يعيش القلق والخوف الدائمين، فإن هو نجا من السجن ووحشية القيمين عليه، فلن ينجو من بطش أساطين الفكر الظلامي، والأمثلة كثيرة. فقد قدَّم فرج فودة حياته ثمنًا لجرأته في تقديم فكره العلماني، إذ اغتالته يد التطرف الديني في 8 حزيران 1992، وكادت روح نجيب محفوظ أن تزهق، في تشرين الأول من العام 1995 لولا أقدار رحيمة، وهو الشيخ الطاعن في السن؛ إذ نجا بأعجوبة ليعيش عدة سنوات أخرى، كذلك ما تعرَّض إليه الأستاذ الجامعي نصر حامد أبو زيد من تكفير، وتدخّل أحمق في حياته الزوجية، ليصار إلى تهجيره قسريًا، ثم إلى وفاته عام 2010 بعد عدة سنوات عاشها في هولندا… وليس آخرهم المفكر السوري الجريء، صادق جلال العظم، الذي توفي في 11 كانون الأول 2016 في منفاه ببرلين، وقد سبقه بسنين نزار قباني الذي شرح بشعره الراقي ثقافتنا الماضوية والاستبدادية، فعاش متنقلًا بين بيروت ولندن، وكذلك كانت حياة الشاعر عمر أبي ريشة. وهذا غيضٌ من فيضِ معاناة الثقافة والمثقفين. كل ذلك حدث في ظلال الثورات/ الانقلابات العسكرية التي أخذت بمفهوم الثقافة الثورية و”التزامها” بشؤون الوطن والمواطن. والنتيجة التي وصلنا إليها: أن لا وطن ولا مواطن، بل جيوش تدمر أوطانها، وتستعين بجيوش أخرى على الفعل نفسه في حال عجزها.
فهل تستعيد الثورة السورية ما افتقده المجتمع من حياة ثقافية سوية تؤسس لنهضة تنموية وإنسانية أم إن الفكر الظلامي الذي لا يزال طاغيًا في جنباتها سيكلِّف الثوار صراعًا مريرًا آخر؟!
[sociallocker] [/sociallocker]