سياسة أوباما الخارجية.. الخطأ تلو الآخر


عندما ينتقل باراك أوباما إلى شارع بيلمونت (2446) في حي كالوراما في واشنطن والذي يبعد عن شارع بنسلفانيا (1600) بميلين، سيعيش على بعد نصف ميل من شارع S 2340، وهو المكان الذي أمضى فيه “وودرو ويلسون” أعوامه الثلاثة في مدة ما بعد الرئاسة. كان فشل سياسة ويلسون الخارجية المرير يتمثل في رفض مجلس الشيوخ مشاركة الولايات المتحدة في تجسيد تطلعات ويلسون في عصبة الأمم المتحدة. أما أوباما فسيغادر منصبه بهدوء؛ وذلك على حد تعبيره: “إن جميع البلدان تقريباً على الأرض ترى أمريكا اليوم أقوى وأكثر تقديراً مما كانت عليه قبل ثمانية أعوام”.

وعلى ما يبدو، هناك دولتان لم تتأثرا بهذا؛ وهما روسيا، التي قطّعت أوصال الدولة الأوروبية (أوكرانيا)، والصين، التي مزّقت القانون الدولي بتحويل مجرى الممر المائي الأكثر أهمية في العالم، بحر الصين الجنوبي، إلى الأراضي الصينية العسكرية.
كانت سياسات أوباما التي أوصلت أمريكا إلى قمة الإعجاب، كما يراها، مزيجاً من عناصر سياسة ويلسون وأخرى مناهضة لها. فقد كان طموح ويلسون العظيم يقتضي إعادة ترتيب العالم بطريقة تجعل وجود طموحات كبيرة لدى أمريكا أمراً غير ضروري؛ فقد ظن أن أمريكا قد تحيا حياة مريحة بعد أن خطّت الجهود الدبلوماسية المضنية قواعد لعبة الأمم.

ويؤمن العديد من التقدميين -معتمدين بذلك على الفيلسوف المفضل لدى المؤسسين “جون لوك”، بينما يرفضون تعاليم الحقوق الطبيعية الخاصة به- يؤمنون بالتواصل الاجتماعي الطبيعي للإنسانية. ويخلّصهم هذا من الاعتقاد بأن السلام بين الأمم أمر طبيعي وعفوي، أو قد يكون لهم ذلك في حال طهّرت الأمم الأخرى عقولها من الخرافات التي تحول دون إدراكها للشرعية العالمية والجدوى التي يمكن إثباتها للمبادئ الأمريكية. وقال ويلسون إن هذه المبادئ يتشارك فيها “الرجال والنساء الذين يتطلعون للتقدم في أي مكان” و”كل أمة حديثة”. وأضاف بصورة غير متسقة أن “كل أمة في العالم يجب أن تنقاد إلى وصاية أمريكا”.

بدا وكأن أوباما يشكك في امتلاك أمريكا الكثير لتلقنه للعالم، إذ ليس هناك أكثر من التواضع بعد حرب العراق _ إلى جانب البعد الذي استمده من ويلسون_ وتأثير قوة الدبلوماسية الرقيقة لترويض العالم. وعلى الرغم من أن الحروب الأهلية الأمريكية والروسية والإسبانية وحتى الحرب الأهلية الصينية، على الرغم من أن جميعها لم تنتهِ بالتفاوض، إلا أن أوباما ظن أن الحرب الأهلية الوحشية والمعقدة في مجتمع سوريا الطائفي والقبلي، على وجه الخصوص، قد تنتهي دبلوماسياً. لكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اختار دعم أحد طرفي النزاع ومساعدته على الفوز.

وحقيقة إن العالم بات أكثر فوضى وأقل شرعية عند استلام أوباما للحكم، ليس خطأه الشخصي بقدر ما كان خطأً ماثلاً في شيء يشكك التقدميون بصحته _ الطبيعة البشرية القوية التي لا تتغير. وقد علم “جوب” أن البشر وُلِدوا مستعدين للمتاعب كسهولة تطاير الشرر إلى أعلى: فهم يتمتعون بالرغبة ولديهم القدرة على المنافسة، ما يجعلهم عرضة للصراع.
وعندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، عبّر رئيس الخارجية الأمريكي “جون كيري” عن خيبة أمله في بوتين بقوله، تعبيراً عن الحزن أكثر من الغضب: “لا يجب عليك أن تتبع أسلوب القرن التاسع عشر وأنت تعيش في القرن الحادي والعشرين”. وإن فعلت، فأنت بذلك تضع نفسك على (في واحدة من العبارات المفضلة لأوباما) “الجانب الخطأ من التاريخ”.

وهذا بدوره يجعل التاريخ، وهو ما تجده في قاموس التقدميين بمعنى اسم علم، شيئاً مستقلاً له عقل خاص به، أو يتمتع بالمنطق على الأقل. وقد عبّر توبيخ كيري لبوتين عن يقين تقدمي بإحراز التطور والتقدم: فلا بد لمرور الزمن أن يحسّن من سلوكيات الأمم. وهذا هو السبب في ورود عبارة “إن الموضوع برمته واحد من بين المصالح التاريخية التي تُعنى بها أوروبا” عام ١٩١١، في النسخة الحادية عشرة الشهيرة للموسوعة البريطانية. وبعدها افتُتِح معسكر “داخاو” للاعتقال في شهر مارس/ أذار عام ١٩٣٣.

وقد افترضت سياسة أوباما الخارجية وجود “مجتمعِ للأمم”، إلا أن تلك العبارة أسوأ من أن تكون عبارة مبتذلة ومؤثرة، بل إنها متناقضة: فهناك أمم مختلفة تؤكد على مفاهيم متباينة للعدالة؛ أي أن المجتمع المكون من أشخاص يصبح متجانساً من خلال الإجماع على طبيعة العدالة.

والخطأ الثاني الأسوأ، وغير المبرر، لأوباما، بعد إعلانه فرض “الخط الأحمر” على استخدام الأسلحة الكيماوية السورية ومن ثم العدول عنه، كان إقحام الجيش الأمريكي في عملية تغيير النظام في ليبيا. وربما راق له هذا المشروع لأنه ليس على صلة واضحة بالمصلحة الأمريكية الوطنية. وقد أداره عن طريق “القيادة من الخلف”، التي وصفها بالقوات الأمريكية “التي تطوعت لإنجاز هذه المهام” في ليبيا. وكما قال “جورج أورويل”: إن العدو الأكبر للغة الواضحة هو الرياء والنفاق”.

وقريباً، سيتولى زمام أمور السياسة الخارجية رجل يبدو الآن، على الرغم من قوله أن مؤسس موقع ويكيليكس “جوليان أسانج” يستحق عقوبة الإعدام، يبدو أنه يثق بأسانج فيما يخص القرصنة الروسية أكثر من ثقته بإجماع مؤسسات الاستخبارات المدنية في وطنه. وكما قيل لنا، الوقت يمر ويحرز تقدماً..

 

رابط المادة الأصلي : هنا.



صدى الشام