لن تستطيع روسيا تحقيق السلام في سوريا


أعطى اتفاق الهدنة الروسي- التركي القاضي بإخراج المدنيين من مدينة حلب "أملًا" لبعض السوريين الذين تقطعت بهم السبل، وفقدوا معنى الأمل كليًّا، بأن روسيا، وخصوصًا مع إجبارها لتنفيذ الاتفاق ضد رغبة ميليشيا حزب الله والميليشيات الإيرانية المتحالفة معها ومع نظام الأسد (زينبيون وفاطميون وحركة النجباء العراقية)، أعطى ذلك كله وهمًا بأنه ربما تسعى روسيا لفرض أجندتها في "الحل السياسي"، ولو ضد رغبات إيران والنظام السوري الذي تدّعي دعمه.

منبع الأمل كان انعدام الأمل بتدخل "غربي"، يوازي التدخل الروسي، وبالتالي، لم يعد لدى السوريين إلا الوهم القائل بضرورة "التفاوض مع القاتل حتى يقتلنا برأفة"، وهو ما حصل فعلًا، فقد دخلت الفصائل العسكرية الكبرى، المنضوية اسمًا تحت مسمى الجيش الحر، في مفاوضاتٍ مع ممثلي روسيا العسكريين، وفي مقدمتهم وزير الدفاع الروسي بذاته الذي أشرف على الاتفاق، وأعلنه من موسكو، حجة الفصائل العسكرية كانت أن تركيا "التي نثق بها" هي الضامن الرئيسي للاتفاق، وبالتالي لن تخذل تركيا السوريين في مفاوضاتهم مع روسيا.

وكان هذا التفاؤل السريع أيضًا قد ظهر مع بداية التدخل العسكري في روسيا في سبتمبر/ أيلول 2014، ما دفع سوريين إلى القول: إن روسيا الآن أصبحت الأواني الصينية، وكما يقول المثل “If you break it you owned”، بمعنى أنك إذا كسرت الإناء، فإن ملكيته أصبحت لك، وعليك التدخل لإصلاحه، وبالتالي، مع التدخل الروسي في سوريا، فروسيا لم تعد داعمًا لنظام الأسد أو راعيًا له، وإنما أصبحت، في الحقيقة، مالكة له. وبالتالي، عليها "إنقاذ سوريا" من أجل الخروج بشرفٍ وكرامةٍ من تدخلها العسكري، لكن الأمور تطورت على غير هذا المبدأ كليًّا؛ إذ تدخلت روسيا في كل الأماكن، مع تركيز عسكري وقوة نارية هائلة ضد المعارضة السورية المسلحة، بما دعم نظام الأسد، ثم تحوّل تدخّلها العسكري، أخيرًا، في حلب إلى قدرة تدميرية هائلة خارج إطار القانون الدولي، ومكّنها موقعها الدائم في مجلس الأمن وامتلاك حق النقض (الفيتو) من حمايتها من أية مساءلة عن جرائم الحرب التي ارتكبتها في حلب، عبر استهداف المشافي والمناطق المدنية المأهولة بالسكان. أخيرًا، فيما يسمى "اتفاق خروج المسلحين" من حلب، والذي يعني عمليًّا اتفاق تهجير للمدنيين القاطنين في مدينة حلب إلى خارج مدينتهم.

إنه اتفاق تهجير قسري ضد القانون الإنساني الدولي، وليس اتفاقًا لحماية المدنيين. وهكذا تجدّد الوهم من خلال فرض روسيا الاتفاق ضد رغبة الميليشيات الطائفية في سوريا، سوريةً كانت أم لبنانية أم عراقية أم إيرانية، وبالتالي، استشعر بعض السوريين في المعارضة أنه يمكن التحالف مع أخفّ الضررين، وهي روسيا، ضد إيران.

من أعقد الأمور الآن التي يمكن تحليلها اليوم معرفة النيات الروسية الحقيقية في سوريا، وهذا ليس بسبب ازدواجية الخطاب الروسي؛ حيث تقول شيئًا وتفعل عكسه على الأرض، وإنما لأن النظام السياسي الروسي اليوم شبيه تمامًا بالنظام السوري، فيما يتعلق بآليات السيطرة والتحكّم داخل المجتمع الروسي، فكل الإعلام الروسي تحول إلى بروباغندا دعائية للكرملين في حربه في سوريا ضد "الإرهاب"، وفقدان كامل لما يسمى “Checks and balances” داخل المؤسسات الروسية، فسلطة الكرملين اخترقت المؤسستين: التشريعية والقضائية. صحيح أن روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفيتي في السابق، فيما يتعلق بالتعدّدية والتنوع داخل المجتمع الروسي. لكن، في الوقت نفسه، ليس لسنوات التغيير والديمقراطية القصيرة التي عاشتها روسيا خلال عهد يلتسين أي حضور أو تأثير.

هناك موقف موحد بأن ما يفعله بوتين في سوريا هو الصحيح، وأن الغرب لا يريد لروسيا النجاح في سوريا، وكل سوري يعارض الموقف الروسي يصبح ببساطة "إرهابيًّا"، كما أن الحرب في سوريا فتحت الفرصة لتجريب السلاح الروسي، بكل أنواعه وتقنياته، هذه هي الحجج التي ساقها ويسوقها الكرملين، كل يوم تقريبًا، في دفاعه عن تدخله العسكري في روسيا.

غابت كليًّا الحجج المنطقية التي أرى أنها يجب أن تكون الأساس الأول لكل قائدٍ يقرّر تدخلًا عسكريًّا مكلفًا خارج بلاده، وهو ما فائدة أو علاقة هذه الحرب بالأمن الوطني الروسي؟ هل هناك حاجة لروسيا لكي تصرف كل هذه الموارد المالية والعسكرية والسياسية أو تستنفدها في الدفاع عن نظامٍ من المستحيل عليه الاستمرار بطريقةٍ سياسيةٍ أو قانونية، فاستمراره يعني استمرار الحرب السورية إلى ما لا نهاية، ولن يشعر اللاجئون السوريون الذين بلغ عددهم اليوم أكثر من 7 ملايين لاجئ بالأمان، من أجل العودة إلى سوريا، طالما طريقة حكم الأسد في القتل والتعذيب والبراميل المتفجرة مستمرة في حكم ما تبقى من سوريا.

وطالما أن روسيا اليوم لا تسأل نفسها هذا السؤال، سيبقى غياب العقلانية السياسية مبدأً رئيسيًّا في حكمها، وأعتقد أن الفشل سينتظرها، ليس في المستقبل البعيد، وإنما في الأيام القريبة المقبلة، فصحيح أنه ليس لروسيا تاريخ استعماري في الشرق الأوسط، أو العالم العربي، كما يحاجج مستشرقوها دومًا، لكنها ارتكبت في سوريا اليوم جرائم وانتهاكات بحق السوريين، ووقفت ضد حقهم في اختيار نظامهم السياسي كما يشاؤون ويرغبون وبشكل سلمي. وطبقت عليهم قواعد غروزني في التدمير والتهجير وحكم "ما تبقى" مهما كان الثمن. وبالتالي، لن يستطيع أيّ سوري أن يتصوّر أن روسيا ربما تريد حلًّا أو خيرًا في سوريا. كانت رغبتها في استعراض القوة العسكرية تحديًا لدور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. والآن، مع الانسحاب الكلي للإدارة الأمريكية تحت إدارة الرئيس باراك أوباما، لم يعد للرئيس الروسي فلاديمير بوتين شيء ليستعرضه، سوى استنزاف الموارد الروسية المالية والعسكرية، وتهالك رصيدها السياسي والقانوني إلى أدنى مستوياته الدولية.