الطبيب الذي وهب حياته لإسقاط الدكتاتورية


تهامة الجندي

بكثير من الحذر والتأني افتح ملفه على صفحات الإنترنت، فالمعتقلون الذين كتبتُ عنهم، يحملون في ضمائرهم مشروعات ثقافية وإنسانية، وهذا ميداني، أما عبد العزيز الخيّر فرجل السياسة بامتياز، والمعارض الماركسي في كل مفاصل سيرته النضالية، منذ أن يئس من اشتراكية البعث في شبابه، وانضم إلى “رابطة العمل الشيوعي”، التنظيم الذي تأسس أواخر سبعينيات القرن العشرين، من أجل إسقاط الدكتاتورية الحاكمة في سورية.

لم يحمل التنظيم المعارض السلاح لتحقيق غايته، لكن أعضاءه والمشتبه بتعاطفهم معه، كانوا يتعرضون للملاحقة والاعتقال وأبشع أنواع التنكيل. وسيرة الخيّر في قيادة هذا التنظيم منذ أوائل الثمانينيات، وحتى اعتقاله الأول عام 1992، جعلتْ منه أيقونة للنضال السري في أذهان كثير من الحالمين بدولة ديمقراطية، تكفل العدل والمساواة للسوريين، ولا سيما بعد أن اقترنت بشهادات رفاقه الناجين عن سيرته الإنسانية في المعتقل.

أقرأ السطور، وتتقاطع المعلومات مع الأحاديث التي رسمتْ أيقونة الخيّر في ذهني، وارتبطت بمواقفه السياسية الشجاعة، بالتوازي مع سلوكه الاجتماعي النبيل، وإسهامه الفكري الغزير في تلك الفترة. فهو معارض مـــن الطائفة العلوية، ومن مواليد القرداحة عام 1951. خريج كلية الطب في جامعة دمشق عام 1976، وعضو المكتب السياسي في “حزب العمل الشيوعي” منذ عام 1982، وقد استطاع أن يمارس دوره القيادي ومهنته، بوصفه طبيبًا، طوال عشر سنوات في دمشق، وهو ملاحق ومتخفٍ، تحت اسمه الحركي “أبو أحمد”.

إضافة إلى ذلك، رئِس تحرير دورية “النداء الشعبي”، وكان عضوًا في هيئة تحرير جريدة “الراية الحمراء”، ومجلة “الشيوعي”، وكتب كثيرًا من المقالات والتحقيقات والتقارير الصحافية، كما أعد دراسة مطوّلة بعنوان “الكتاب الأسود” أواسط الثمانينيات، عن انتهاكات النظام لحرية الضمير، وأسهم في إصدار بيان “عرس الديكتاتورية” الذي كشف زيف الاستفتاء على الرئاسة عام 1991. وبسبب تخفّيه ونشاطه السري، تعرضت عائلته إلى أصناف شتى من المضايقات والضغوط الأمنية، من الاعتداء على شقيقته، الأستاذة الجامعية سلمى، بالضرب وسط الشارع العام في مدينة اللاذقية، إلى اعتقال شقيقه النقابي هارون، وشقيقته ندى، وابن عمه، فزوجته المدرّسة منى صقر الأحمد.

بعد سنوات من الملاحقة تمكنت منه أجهزة الأمن، وقبع الخيّر في الزنزانة، وتعرض للتعذيب، وفي عام 1995 قضت محكمة أمن الدولة، بسجنه اثنتين وعشرين سنة، بتهمة الانتماء إلى حزب سياسي محظور، ومناهضة الثورة والنظام الاشتراكي. قضى فترة اعتقاله في سجن صيدنايا، وأقنع إدارته بتخصيص منفردة لعلاج المساجين، وبات طبيب الجميع، وأسموه الحكيم، قبل أن يُفرج عنه بعفو رئاسي عام 2005، بعد كثير من الضغوط الدولية.

ما إن أُطلق سراح الحكيم؛ حتى استأنف نشاطه السياسي، بوسائل علنية هذه المرة، من خلال موقعه في “حزب العمل الشيوعي”، وبوصفه نائب رئيس المجلس الوطني لإعلان دمشق، ومؤسس تجمع اليسار الماركسي “تيم” عام 2007، وفي حديثه لمجلة “مقاربات”، قال: “لقد سئم السوريون من الديكتاتورية أشد السأم، وباتوا يتلهفون إلى اللحظة التي يستعيدون فيها مواطنتهم، وحقوقهم السياسية الأساسية”.

استعادة المواطنة والحقوق السياسية، تعني “الانتقال إلى حكم وطني ديمقراطي عبر مسار سلمي وتدرّجي” من وجهة نظر الخيّر، وهو انتقال مشروط بتضافر وتناغم جهد المعارضة السورية في الداخل والخارج، على أن تكون الأولوية للمعارضة الداخلية، فهي التي تصوغ برنامج العمل، و”للمعارضة الخارجية أن تسهم فيه وتغنيه، أو تجري بعض التعديلات عليه، أما أن تصنع هي البرنامج وتنفذه من خلال الداخل، فهذا تصور غير واقعي، وإذا كانت تعتمد على أجندة خارجية، فهذا وضع كارثي”.

لم تتغير رؤية الخيّر في ظل الثورة، بل تمحّور جهده بوصفه رئيس مكتب العلاقات الخارجية في “هيئة التنسيق الوطنية”، كما تمحّورت لقاءاته مع جميع أطراف الصراع، بمن فيهم الروس والصينيين، حول أولوية دور المعارضة في الداخل، وأولوية الحراك السلمي، ورفض التدخل الأجنبي، وفي حديثه لجريدة “الزمان” الدولية، ذكر: أن مؤتمر جنيف هو بارقة الأمل الوحيدة لحل الأزمة السورية، وأن نجاح المؤتمر رهن بوجود تفاهم دولي حقيقي، وتوحيد جهد المعارضة السورية في الداخل والخارج.

في تلك الآونة من نشاطه السلمي الدؤوب، تعرض الخيّر لموجة من التشكيك بمواقفه واتصالاته، من دون مسوّغات فعلية، وحين نطرح السؤال عن أسباب الطعن بالمعارضين، وما آداب النقد، وحدود الحق في الاختلاف؟ نجد الإجابة في حوار أُجري معه قبل الثورة بثلاثة أعوام: “إن أحد الآثار المدمرة للديكتاتورية المديدة على العقل وممارسة السياسيين في سورية، أنها تدفع ضحاياها نحو ممر ضيق الصدر، قليل التسامح مع الاختلاف، وتسهّل الانزلاق نحو تضخيم الشكوك، والنزعة التآمرية في الفهم والتحليل”.

يوم الحادي والعشرين من أيلول 2012، اعتقلت الاستخبارات الجوية عبد العزيز الخيّر، وهو عائد من الصين، بعد مشاركته في مباحثات العملية السياسية في سورية. أُشيع نبأ وفاته تحت التعذيب، وجرى نفّيه، ثم قيل إنه موجود في سجن سري كبير، يقع ضمن حدود مطار دمشق الدولي، وفيه يحتفظ النظام بعدد لا بأس به من الشخصيات المعارضة المعروفة، لكن بعد أربعة أعوام على اختفاء الخيّر القسري، ليس بوسع أحد تأكيد مكان وجوده، أو الجزم إن كان حيًا، أم في عداد شهداء السجون السورية، فأجهزة الدولة تصر على إنكار حادثة اعتقاله، والروس يتجاهلون الضمانات التي وعدوا بها المعارضين في الداخل.

5/1/2017




المصدر