الوصاية الدولية لتعزيز المرحلة الانتقالية


منير شحود

ليس ثمة جديد نضيفه إلى حقيقة التدمير الشامل في سورية؛ من تهديم البيوت فوق ساكنيها إلى تحطيم تمثال أبي العلاء المعري، فعلاوة على سياسات الاستبداد الثابتة في محاولة ليّ عنق التاريخ والرجوع بسورية إلى الوراء، ركبت الثورة مجموعة من القوى الانتهازية والجهادية؛ ما حجب المصالح الحقيقية للسوريين في العيش بدولة محايدة وحديثة يتمتعون فيها بالحقوق ويقدمون إليها الواجبات، بمعنى آخر، دولة لا تختلف، جوهريًا، عن تلك التي يهاجرون إليها الآن للشعور بالحرية والكرامة.

وإن كان تعدد المواقف المعارِضة أمرًا منتظرًا في مثل هذه المنعطفات التاريخية، فإنه حالَ في سورية، حتى الآن، دون تبلور سياسات بديلة وواضحة، يمكن البناء عليها، وفسح المجال للتدخل الإقليمي والدولي، الذي تحول إلى صراع مكشوف، مباشر أو غير مباشر، يدفع ثمنه السوريون من أرواحهم وممتلكاتهم. كما لم يتمكن الوطنيون السوريون؛ حتى تاريخه، من تجميع أنفسهم في تشكيلات سياسية فاعلة ومستقلة ومنافسة.

ما يثير القلق أيضًا، وينعكس سلبًا على صورة سورية المقبلة وإمكانية نهوضها من جديد، هو التدمير القيمي والأخلاقي الذي مارسه -ويمارسه- بعض السوريين المنخرطين في الصراع الحالي، خاصة في وسائل الإعلام الاجتماعية، سواء منها الموالية أو المعارضة. كما استمر الذين يدورون في فلك الأطراف المتصارعة على الأرض السورية بدعم مظاهر التوحش وتبريرها، في استعادة أسوأ ما شهدته النزاعات الدموية في التاريخ.

كان عام 2012 العام الذي اختلط فيه الحابل بالنابل؛ الثورة بالثورة المضادة، الجهاديون بالثوار، التسلح بالسلمية، الأسلمة بالعلمنة… إلخ. كذلك ظهرت في ذلك العام تشكيلات سياسية معارضة، ادّعت تمثيلها للثورة، وانتقلت من فشل إلى آخر على امتداد أكثر من خمس سنوات. أدى تتابع الأحداث لاحقًا، بما في ذلك التدخلات الطائفية، إلى انكفاء معظم السوريين عن مجال الفعل والتأثير، ومنهم كثير من المعارضين الذين كان لهم دور مهمّ في بداية الأحداث، ولم يجدوا في أفق الصراع المسلح صورة سورية التي يأملون.

في عام 2012 أيضًا، حفلت خطابات بعض الناشطين والسياسيين المعارضين بالتحريض الطائفي الذي لاقى صداه في أوساط جمهور غرائزي، فعمل على شيطنة الآخرين، أفرادًا وجماعات. وصل الأمر بأحد المستثمرين في وسائل إعلام ليس له علاقة بأي عمل أو أثر أدبي، للتهجم على مجموعة من الأدباء السوريين المعروفين الذين ينتمون -بالولادة- إلى طائفة معينة، واتّهامهم بأنّهم اعتاشوا، أدبيًا، على ثقافة “الأكثرية”، وانبرى عدد من أنصاره للدفاع عن آرائه!

كما برّر معارضون آخرون، منهم من هو محسوب على العلمانيين، تحطيم تمثال المعري وغيره، بأنه من الممارسات التي تحصل في الثورات، من دون إدراك الأهمية الرمزية لذلك، أو، على الأصح، إنكارها! مع أنّ مَن قاموا بذلك كانوا يستندون إلى ادّعاءات وفتاوى دينية، ولا يخفون نياتهم ومراميهم. من جهة ثانية، قال أحد المعارضين العلمانيين مرةً، في معرض تبريره لقصف محطات الكهرباء وتفجير أنابيب الغاز من بعض الفصائل، إنه يحق للثوار الذين يريدون إسقاط النظام أن يفعلوا ذلك، إنْ كان يخدم هدفهم!

وهكذا، بدا وكأن بعض المعارضين النافذين ينتقمون من نظام الاستبداد من خلال تقمُّص دوره، وأنهم يريدون تبديل مالك المزرعة بآخر فحسب، أو بالأصح، استبداله بمجموعة من الملاك الصغار، وتوزيع المزرعة حصصًا على المستثمرين. قلت مرةً، بعد لقاءٍ مع فاعليات أجنبية، والاستماع لوجهات النظر المطروحة: إن بعض الأجانب يبدون وطنيين سوريين أكثر من بعض المعارضين السوريين، ولم أكن أسخر بالطبع!

لم يأتِ الأمر من فراغ، وليس السوريون من طينة أخرى غير باقي بني البشر، إنما هذا ما كشف عنه تمزق قشرة المجتمع الصلدة، وانفراط عقد ثقافته الاجتماعية المشبعة بعقلية المستبد، وهي الثقافة ذاتها التي ساهمت، من بين عوامل أخرى، في دوام حالة الاستبداد تلك الفترة الطويلة؛ ما يجعل من مهمة الإصلاح الاجتماعي والديني أمرًا بالغ الأهمية؛ من أجل التقدم بخطوات ثابتة في الاتجاه المطلوب. ومع ذلك، ربما سيذكر المؤرخون أنّ السوريين هم أكثر من أساء إلى ثورة الحرية والكرامة، وأنّ المعارضة السورية كانت من بين أسوأ المعارضات التي عرفها التاريخ.

يفضي وضع المعارضة الحالي، تلقائيًا، إلى أن تملأ القوى الإقليمية والدولية، بأجنداتها المباشرة، أو عن طريق قوى سورية تابعة، الفراغ الحاصل في أثناء المرحلة الانتقالية على الأقل، ويعيق تبلور قوى وطنية سورية تطمح إلى تمثيل مصالح السوريين الذين لم يتمكنوا من التعبير عن آرائهم في المرحلة السابقة، وهم الأغلبية، على الأرجح.

وهكذا، نظرًا إلى حقيقة عدم إنجاز البديل الوطني السوري، لأسباب ذاتية، أو بسبب عرقلته من طرفي الصراع ومَن يقف وراءهما، فإن الوصاية الدولية ليست عارًا، إنما استمرار القتل وطغيان شريعة الغاب واستشراء الفساد والعصابات هو المصيبة الأكبر والعار المقيم. لا تتعارض هذه الوصاية مع استمرار المخاض السياسي بكل تعقيداته، ولا بالحرب على الإرهاب، بل قد تساعد في ضبطهما، وتقلل من التجاذب الدولي المتعلق بهذين المسارين.

وبالتالي، نعتقد أنّه من الأفضل -في هذه المرحلة- تنظيم الوجود الدولي الحالي، وتحويله إلى وجود قانوني برعاية الأمم المتحدة، ليقوم بمهمات محددة، خلال فترة قد تطول أو تقصر، وبما يكفي لضمان الحد الأدنى من الأمان للسوريين المقيمين، والمساعدة في عودة المهجّرين، ريثما يحدد الدستور الجديد طبيعة النظام السياسي الذي سيتفقون عليه، ويتشكل جهاز أمن وطني قادر على تطبيق القوانين المنبثقة من هذا الدستور.




المصدر