تجاوز الصدمة: التكتيكات النفسية والسياسية لتمرير تدابير التقشف العربية

يشير تصميم برامج الإصلاح الاقتصادي في المنطقة العربية في السنوات الأخيرة إلى شيوع خصائص مشتركة بين البلدان في عملية إعداد وتنفيذ هذه البرامج لتشكل معًا نموذجًا فريدًا في تمرير التحولات الاقتصادية المطلوبة. وتتمثل أسس هذا النموذج في تبني أسلوب الإصلاحات من أعلى السلطة إلى أسفل، والتخلي نسبيا عن النهج التدريجي، بما قد يؤدي إلى صدمات اقتصادية واجتماعية واسعة فيما يُعرف بمنهج "الصدمة"، وهو الأسلوب الذي اتبعته بلدان شرق أوروبا لإدارة تحول اقتصاداتها من الأنظمة الاشتراكية إلى أنظمة السوق الحر. والمحور النفسي هو أحد الجوانب الأخرى التي اعتمد عليها النموذج السابق؛ حيث ركزت معظم حكومات المنطقة على بث رسائل ممزوجة بين "التحذير والتحفيز"، في محاولة لتمرير الإصلاحات الاقتصادية التي تعتقد الحكومات بضروريتها، وعلى رأسها التدابير التقشفية. فمن ناحية، روجت الحكومات لأن هذه البرامج تخلق فرصًا مستقبلية مؤكدة لتعزيز النمو الاقتصادي وتحسين الأحوال المعيشية مستقبلا، بينما أشارت -من ناحية أخرى- إلى أن عدم الالتزام بتطبيق هذه البرامج قد يؤدي إلى أوضاع اقتصادية أكثر سوءًا. وإلى الآن، نجحت بعض بلدان المنطقة في تمرير التحولات الاقتصادية بناء على التركيبة النفسية والسياسية للنموذج السابق، بينما فشلت أخرى في تمرير بعض التدابير، حيث تتمتع المعارضة السياسية بقوة تفاوضية تضاهي الحكومة، كالوضع في تونس، بما قد يمنحها حظوظًا أوسع لعرقلة بعض هذه القرارات. تدابير إصلاحية على مدار الأعوام الماضية، أكد عدد من بلدان الإقليم (مصر، تونس، الجزائر، الأردن، العراق، المغرب) مضيَّها في تنفيذ برامج للإصلاح الاقتصادي، في محاولة لتعزيز النمو الاقتصادي الذي تباطأ منذ اندلاع الثورات العربية في عام 2011، ولمعالجة عدد من التشوهات الاقتصادية الملحة، وعلى رأسها عجز الموازنة الذي تزايد فيها بشكل ملحوظ بسبب تراجع العوائد الحكومية في مقابل تزايد النفقات العامة. وشملت محاور هذه البرامج تدابير عديدة، كتعزيز دور القطاع الخاص، وتحسين مناخ الاستثمار، وتحرير سعر الصرف، إلا أن أكثرها إثارة للجدل والتي سارعت بعض الحكومات في تنفيذها مؤخرًا ما يُعرف بالبرامج التقشفية، والتي شملت تدابير عديدة هي فيما يلي: 1- ترشيد دعم الوقود: حيث أقرت حكومات المنطقة بالسنوات الماضية زيادات متوالية في أسعار المشتقات النفطية، والتي شملت زيادة في أسعار البنزين والديزل والكيروسين لأغلب القطاعات الاقتصادية. ومن أولى البلدان التي تبنت هذه الخطوة بالمنطقة هي الأردن التي رفعت أسعار البنزين والديزل في نوفمبر 2012 بنسب تتراوح بين 16 و32%. وفي يوليو 2014، رفعت الحكومة المصرية أسعار المشتقات النفطية والغاز الطبيعي بنسب تتراوح بين 11% إلى 122%، وفي نفس الشهر، قررت الحكومة التونسية زيادة سعر لتر البنزين بنسبة 6.3%. أما في شهر نوفمبر من 2016 فقد رفعت الحكومة السودانية أسعار المشتقات النفطية بنسبة تتراوح بين 32% إلى 34% وذلك بعد زيادة بنسبة 37% تمت في عام 2013. فيما قامت الحكومة المصرية برفع أسعار المشتقات النفطية مجددًا في نفس الشهر السابق بنسب تتراوح بين 30% إلى 47%. 2- زيادة الضرائب: حيث لجأت حكومات المنطقة العربية لتعبئة مواردها المالية إما عن طريق فرض زيادات جديدة في معدلات الضرائب، لا سيما ضرائب الاستهلاك، أو توسيع القاعدة الضريبية. وفي هذا السياق، زادت ضريبة القيمة المضافة بمصر منذ سبتمبر 2016 إلى 14% بدلاً من 10% سابقًا. بينما اعتبارًا من عام 2017، تم رفع ضريبة القيمة المضافة بالجزائر من 17% إلى 19%، بالإضافة إلى رفع الرسوم على العقارات والوقود والتبغ، واستحداث رسم على الأجهزة الكهربائية كثيفة الاستهلاك للطاقة. فيما أقرت تونس رفع الضرائب على السيارات في موازنة عام 2017، وتوسيع القاعدة الضريبية أيضًا بإخضاع بعض فئات المهنيين للنظام الضريبي كالأطباء والمحامين وغيرهم. 3- إلغاء دعم السلع الأساسية: فقد ارتفعت السلع الأساسية كالغذاء والأدوية وغيرها بأسواق المنطقة العربية إلى مستويات غير مسبوقة نتيجة تحول البلدان إلى تبني أنظمة سعر الصرف المرن بدلاً من نظم سعر الصرف الثابتة. ففي مصر على سبيل المثال، أدى قرار تحرير سعر الصرف في نوفمبر 2016 إلى ارتفاع أسعار المواد الأغذية بالأسواق إلى أكثر من 100%. وفي نفس الشهر، توقف بنك السودان المركزي عن توفير النقد الأجنبي لاستيراد الأدوية-القرار الذي تم تجميده لاحقًا- كان يعني رفع أسعار الأدوية بنسبة لا تقل عن 100% أيضًا. 4- تجميد الرواتب العامة: بالإضافة إلى الإجراءات السابقة، فقد أقرت حكومات المنطقة خططًا لترشيد فاتورة الأجور العامة التي تمثل النسبة الأكبر من النفقات الحكومية، كالجزائر التي تضمنت ميزانيتها لعام 2017 خطة لتجميد الرواتب قد تمتد للسنوات المقبلة، فيما أقرت تونس زيادة في الرواتب العامة ولكن على مدى عامين. ورغم وجهة نظر الكثيرين التي ترى أن الالتزام بتنفيذ التدابير الإصلاحية السابقة سيؤدي إلى تعزيز الاستقرار المالي والنقدي بالمنطقة العربية مستقبلا، إلا أنها لا تقدم أفضل النتائج للجميع في الوقت الراهن؛ حيث ينظر البعض إلى التدابير التقشفية باعتبارها جزءًا من منظومة اقتصادية محلية غير عادلة، بما يُضيف إليهم أعباء وضغوطًا اقتصادية إضافية. كما تُرجّح بعض التيارات الاقتصادية المناوئة لهذه التدابير أنها ربما لا تتسق مع الاحتياجات الإنمائية طويلة الأجل، وستؤدي أيضًا إلى هبوط المستويات المعيشية لأغلب المواطنين، كما أنها لن تقدم الضمانات الكافية لتعزيز فرص النمو الاقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية المنشودة. ومن المؤكد أن المخاوف الشعبية حيال البرامج التقشفية -تحديدًا- قد تعزز من قلق الحكومات بأن تنفيذها قد يُثير كثيرًا من الاضطرابات بما يعرقل مسيرة تقدمها في إنجاز برامج الإصلاح الاقتصادي برمته، وهو ما حدث ببعض بالبلدان بالفعل كالجزائر وتونس مثلاً اللتين شهدتا في أواخر عام 2016 احتجاجات ومظاهرات عمالية وفئوية على خلفية تطبيق التدابير السابقة. تكتيكات مختلطة تصدت حكومات عربية للمخاوف الشعبية من التدابير التقشفية عبر تبني تكتيكات سياسية ونفسية في إعداد وتنفيذ برامج الإصلاح الاقتصادي بمنطقة الشرق الأوسط، وبما شكل نموذجًا فريدًا يقوم على الأسس التالية: 1-من أعلى لأسفل Top-Down: أدارت بعض الحكومات العربية حواراً محدوداً مع شرائح المجتمع لطرح وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية لتبدو أكثر أنها موجهة مركزياً، ومن أعلى السلطة إلى أسفل، بما يقلل من الحاجة الحقيقية للدعم الشعبي لها، ولكنها مدعومة في الوقت نفسه بخطاب سياسي واقتصادي تحذيري تارة من مغبة التخلي عن هذه الإصلاحات، وتحفيزي تارة أخرى عبر تقديم البراهين المتعددة لعوائد تطبيق هذه الإصلاحات. 2- منهج الصدمة/التدريجي: تبنت بعض البلدان العربية منهجاً تدريجياً ومرحلياً في تمرير الإصلاحات الاقتصادية إلا أن السمة الغالبة تُشير إلى أن تنفيذها بما فيها التدابير التقشفية تم وفق جدول زمني قصير الأجل لم يتجاوز العامين أو الثلاث على الأكثر، وهو ما يرتب في واقع الأمر أعباء اقتصادية على المواطنين في فترة زمنية وجيزة. 3- التوقيت المثالي: يأتي تنفيذ برامج الإصلاح الاقتصادي بالمنطقة في وقت مثالي على الصعيد المحلي والإقليمي. ففي أغلب بلدان المنطقة، تبدو قوى المعارضة السياسية والاجتماعية في حالة إنهاك وانزواء بعد تعثر الثورات العربية، بما يقلل من قدرتها على المقاومة، بينما على الصعيد الإقليمي، تعمل الأوضاع السياسية والأمنية المضطربة بالبلدان المجاورة كسوريا أو ليبيا أو اليمن على قبول الشعوب بالأطروحات الحكومية دون مقاومة كبيرة، خوفًا من أن معارضة هذه البرامج الإصلاحية قد يُثير الفوضى مجددًا. 4- تماسك النظام السياسي: إن تماسك النظام السياسي أمر بالغ الأهمية أيضًا، حيث إن الاتفاق الضمني بين السلطتين التنفيذية والتشريعية ببعض بلدان المنطقة على تمرير برامج الإصلاح الاقتصادي، يعد رسالة قوية للمعارضين بأنه ليس ثمة مفر من تطبيق هذه الإصلاحات. وهذا ما يؤكده -على سبيل المثال- إقرار مجلس النواب الجزائري في نوفمبر 2016 موازنة عام 2017 التقشفية بأغلبية كبيرة. علاوة على ذلك، تحظى الحكومات بدعم من قبل المؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي أو البنك الدولي لتنفيذها. 5- المقايضة الإصلاحية: تمتعت بعض حكومات البلدان العربية بالمرونة السياسية في تمرير الإصلاحات الاقتصادية، حيث أقبلت على التفاوض مع قوى المعارضة من أجل التوصل إلى حلول وسط حول قضايا الإصلاح. ولطالما توصل الطرفان لحلول مرضية لهما فقد يوحي الأمر بأن تيارات المعارضة حققت انتصارًا مهمًّا، ولكنه في حقيقة الأمر يعكس من جانب آخر مقايضة ضمنية بين الطرفين بإفساح المجال أمام تنفيذ تدابير إصلاحية أخرى. ومثالا على السابق، توصلت الحكومة التونسية مع الاتحاد العام التونسي للشغل -الذي يتمتع بنفوذ سياسي- في ديسمبر 2016 إلى إلغاء خطط سابقة بتجميد الزيادة في رواتب القطاع العام مقابل إقرار إجراءات أخرى من بينها إخضاع كل المهن الحرة، ومن أبرزها الطب والهندسة والمحاماة، لنظام تحصيل الضرائب. بينما أيضًا وعلى خلفية الاحتجاجات الواسعة على قرار زيادة أسعار الأدوية بالسودان الصادر في نوفمبر 2016، اضطرت الحكومة إلى إرجاء هذه الخطوة بعد أيام قليلة، بل أكثر من ذلك أنها أعلنت أيضًا توسيع مظلة التأمين الصحي، وتوحيد أسعار الأدوية في كافة أنحاء السودان، بالإضافة إلى زيادة ميزانية العلاج المجاني، وهو ما يمثل مكاسب غير متوقعة للمواطنين، ولكن السودانيين -في واقع الأمر- ينتظرون قرار اللجنة المشكَّلَة حديثًا لإعداد الأسعار الجديدة للأدوية، والتي ربما تقر ارتفاعها مجددًا بمعدل أقل. 6- رسائل إعلامية مكثفة: فقبل وأثناء تنفيذ البرامج الإصلاح الاقتصادية، أفسحت المنصات الإعلامية المحلية المجال أمام الأصوات المؤيدة لبرامج الإصلاح الاقتصادي، والتي كثفت من رسائلها حول أهمية هذه البرامج في تعزيز النمو والاستقرار الاقتصادي، فيما أقصت بعض المنصات الإعلامية الأصوات المعارضة لخطى الحكومات. خطابات نفسية أحد الجوانب الأخرى التي اعتمدت عليها حكومات المنطقة في تمرير الإصلاحات الاقتصادية هي تكريس الرسائل النفسية التي تمزج بين أسلوبي الترهيب والترغيب، وهي فيما يلي: 1-خطابات اللوم/التحذير: تصدت بعض الحكومات العربية لأعمال الاحتجاجات غير الشرعية - المحدودة النطاق والتأثير في أغلب الأحوال- المناوئة لبرامج الإصلاح الاقتصادي من خلال استخدام القوة الخشنة لتحجيمها. وفي الوقت ذاته وجهت رسائل نفسية وإعلامية مختلفة للقوى السياسية أو الشعبية المشاركة بهذه الأعمال تعتمد تارة على توجيه اللوم بأن هذه الاحتجاجات ستضر بأطراف المجتمع كافة، وتارة أخرى بالتحذير بأن المشاركين فيها سيخضعون للمحاسبة والمساءلة القانونية. فمثلا، تصدت الجزائر لتظاهرات مناهضة لموازنة عام 2017 التقشفية بالمدن المختلفة، لا سيما بولاية بجاية في يناير 2017، وترافق مع ذلك خطابات حكومية وإعلامية تُحذر من مغبة هذه الاحتجاجات، وتأثيرها على الاستقرار في هذا البلد. 2- محدودية البدائل: أكدت الرسائل النفسية للحكومات دومًا أن التخلي عن هذه البرامج ربما لن يكون مفيدًا للأوضاع الاقتصادية، بل يؤدي إلى مزيد من تخبط الاقتصادات المحلية. وروجت بأنه لا مفر من تطبيق هذه السياسات، وذلك لمواجهة المشكلات الاقتصادية، كانخفاض الموارد، وارتفاع عجز الموازنة، وزيادة الدين العام. 3- خطابات الترغيب والتحفيز: على عكس السابق، تضمنت الرسائل الحكومية أيضًا أن هذه البرامج ستضمن مستقبلا أفضل للأجيال القادمة، كما ستعمل على رفع النمو، والحد من البطالة، والقضاء على الفساد، وإصلاح نظام الضرائب، واقتصاد أكثر عدالة. كما راعى المسئولون الحكوميون الترويج في مناسبات عديدة لأن برامج الإصلاح الاقتصادي الذي تتبناه الحكومة تسير وفق أجندة وطنية وليس وفق رؤى مؤسسات دولية سيئة السمعة بالنسبة للمواطنين. 4- تضحيات مشتركة: أكد عدد من الحكومات أن مسئولية تحمل أعباء وتبعات هذه البرامج مشترك بين أعضاء الحكومة ذاتها والمواطنين. وفي هذا الصدد، استبقت بعض الحكومات –كتونس والجزائر- بخفض مرتبات الوزراء بنسبة 30% و10% في شهري سبتمبر ونوفمبر من العام 2016 على التوالي، في خطوة رمزية تهدف إلى تقليص الإنفاق العام، وتشجع المواطنين على الاستجابة لهذه البرامج. جدوى المؤثرات وأخيرًا، يمكن القول إن عناصر النموذج السابق التي تقوم في النهاية على تحجيم الدور التشاركي لكافة صور المعارضة لبرامج الإصلاح الاقتصادي، تُعد خيارًا مفضلا انطلقت منه بلدان المنطقة حتى الآن، كمصر والجزائر وتونس، لتمرير جزء كبير من التدابير الاقتصادية المخطط لها، كتجميد الرواتب، ورفع دعم الوقود، وزيادة الضرائب، وغيرها. كما أدت الرسائل النفسية الموجهة للمواطنين دورها في الحد من المعارضة المحتملة للتدابير؛ حيث تخشى شرائح عديدة من مجتمعات المنطقة حاليًّا من تكرار سيناريو الفوضى القائم بالبلدان المجاورة. وبرغم ما سبق، لا يمكن الجزم بأن تبقى هذه التكتيكات فعالة دون قيود، فما دامت الحكومات قد مضت في تنفيذ هذه البرامج التي تراها مسألة حتمية لاستقرار اقتصاداتها، ففي المقابل ينتظر المواطنون بترقب المكاسب الحالية والمستقبلية المتوقع جَنْيُهَا من تنفيذ هذه التحولات.