فرج بيراقدار في خيانات اللغة والصمت: تفاصيل ١٤ عامًا في المعتقل


مصطفى عباس

“يبقى السجن سؤال الحرية الأول، وبالتالي؛ حضورها الأقصى، وإن كان مطروحًا من باب النفي”.

هذا مقتطف من كتاب “خيانات اللغة والصمت” الذي يتحدث عن 14عامًا من تجربة الشاعر والسياسي فرج بيرقدار في سجون الاستخبارات السورية، وصدرت الطبعة الأولى منه عن دار الجديد عام 2006.

تخسر الحروف مزاياها، وتفقد الكلمات خواصها، وتعجز الجمل عن أن تؤدي وظيفتها بتوصيف سجن يُطحن فيه البشر، وسحقهم وشيّ لحمهم وقتل حلمهم، ولكن البوح يبقى خيرًا من الصمت، لأن الصمت خيانة. في زمن ما، كان يحدث هذا الحيف الذي تخونني اللغة فيه، أما الصمت فربما كان ولا يزال أكثر حيفًا وخيانة”.

الشعر بالنسبة للكاتب هو طير الحرية الأجمل، وهو حرر الشعر في داخله؛ فحرره الشعر مما يحيط به من جدران وأنفاق وسلاسل وأقفال، لذلك؛ كانت اللغة الشاعرية الرفيعة هي ما يحاول الشاعر البيرقدار –عبرها- وصف حال الجحيم الذي أحرق 14 عامًا من عمره، قضاها بين سجن تدمر ذي الصيت الذائع المريع، وسجن صيدنايا العسكري، بتهمة الانتماء إلى حزب العمل الشيوعي، حيث أطلق سراحه بعد حملة دولية نُظمت من أجل الإفراج عنه، إثر فوز بعض مجموعاته الشعرية بجوائز عالمية، وهو داخل السجن، ولولا الحملة الدولية، لبقي -ربما- البيرقدار إلى الآن مع عشرات الألوف ممن يغيبهم السجن .

فصول الكتاب السبعة عشر التي جاءت بعنوانين، قصائدَ شعرية، كانت لا تخلو من لغة ساخرة في تجسيد فعلي للكوميديا السوداء، مثلًا، حين يصف الكاتب القيد الإسباني (الجميل واللامع ولكنه في منتهى اللؤم) الذي كبلوه به حينما أرادو نقله إلى سجن تدمر “سامحكم الله أيها الإسبان. لا أنكر أن أجدادنا احتلوا بلادكم فيما مضى، وهذا رغم كل شيء يؤسفني حقًا، ولكن ألم تجدوا طريقة أخرى غير هذا لرد الجميل”؟!

كثيرة هي طقوس التعذيب التي يحاول الكاتب نقلها بطريقة تصويرية، تضع القارئ في قلب الحدث، وكأنه يشاهد الشرطي الذي وضع رأس سجين بيد وأمسك باليد الأخرى “كماشة” كي يقتلع بها أذنه. يا له من مشهد مؤلم! فما سنقرأه في هذا الكتاب ينطوي على قدر كبير من اللاعقلانية، كما قال بيرقدار.

في سورية الأسد، كل إنسان رقم لا أهمية له سوى ما سيجنيه الحاكم وجلاوزته من جيبه، أما السجين، فرقم ضار، لا معنى له إلا لتميز سجين عن آخر. ولكم تجرع فرج بيرقدار من السياط البالغة أمّيتها؛ حتى استطاع أن يعرف أن اسمه هو رقم 13، حيث كانت السياط والكرابيج تشخط الهواء بزفيرها، تاركة وراءها أنينًا مخطوفًا، تتخلله شهقات دامية متقطعة.

التنفس في باحة سجن تدمر هو قطع للنفس، من شدة الأنين الذي يصدره السجناء بعد حفلة تعذيب، وعندما يموت سجين من شدة التعذيب يأتي الطبيب، ومعه ثلاثة شرطيين؛ ليسألوا عن السبب، فيكون الجواب أي شيء سوى الحقيقة؛ “لأن إعلان الحقيقة يمكن أن يكلف المهجع المعني ضحية جديدة في اليوم التالي”.

أعلن أحد المسجونين الإضراب عن الطعام؛ فأتى الشرطي بفأر ميت يريد أن يطعمه إياه، ولكنه وجد المضرب عن الطعام يلفظ أنفاسه الأخيرة، فأبى إلا أن يطعم الفأر لأقرب سجين إليه، شرط أن يبتلعه دون مضغ. وبعد تعذيب لإجباره على ذلك أصبح السجين مجنونًا!

كثير من السجناء نسوا أسماءهم؛ فضلًا عن أسماء آبائهم وأمهاتهم، وبعضهم لم يعرف أهله في أول زيارة زاروه فيها! بعد سنوات لم يعرف فيها سوى جدران الزنزانة القاسية ووجه السجان القبيح، كما جرى مع فرج عندما لم يعرف أن الصورة التي سُربت إلى السجن هي لابنته، التي تركها في الثالثة من عمرها، وخرج من السجن وهي على أبواب الجامعة.

يتكلم الكاتب -بإنصاف- عن السجانين الذين كان بعضهم إنسانيًا، ولكنه لا ينسى أن يعرج على غباء ضباط النظام، فمثلًا عندما اشتكى أحد المسجونين من أنه حكم عليه بالبراءة منذ عامين، ولكنه مازال حبيسًا، فواساه مدير سجن صيدنايا الفهيم، ليقول له “كل بريء سيخرج من السجن ولو بعد مئة عام “!

أما كيف هرّب الشاعر هذا الكتاب، وبعض القصائد، فبعضها جرت كتابته على أوراق السجائر، وبعضها الآخر على صفحات الذاكرة الحية، وأحيانًا يتناوب أكثر من سجين على قصيدة؛ حتى لا يتم نسيانها.

يوضح الكاتب أن حالهم، بوصفهم معتقلين عن أحزاب وتيارات سياسية متعددة، أفضل بكثير من أحوال سجناء الإخوان وحزب البعث العراقي: “أما الباحات الأخرى التي تضم الإخوان المسلمين وبعث العراق، فقد كانت حالها أقسى وأكثر بؤسًا وخطورة وتراجيدية… حالٌ لم يُنذر بها من قبل نبيّ ولا كتاب”!

وفي أثناء مرافعته أمام محكمة أمن الدولة العليا في دمشق، كان مما قاله: “حتى الأجيال التي ستولد في سورية مستقبلًا، ستطرق الرأس خجلًا، كلما توقفت أمام هذه الصفحات السوداء من تاريخ سورية”.

وفي النهاية، كما قال البيرقدار: “يبقى السجن ذكورة افتراسيّة قصوى، والحريّة أنوثة رحمانيّة قصوى”؛ موازنة تصلح -بطبيعة الحال- لكل زمان ومكان، لكن عندما يتعلق الأمر بسورية، زمان نظام الأسد وأمكنة السجون داخل السجن الكبير، تمسي مقابلة الحرية بالمعتقل أكثر اشتهاء وتبسيطًا؛ حتى على أمّي، فكيف على شاعر مثل فرج؟!




المصدر