on
تركيا بين صليب الغرب وهلال “داعش”
ميخائيل سعد
لم يكن أثر الهجوم الإرهابي على إسطنبول في ليلة رأس سنة 2017، مقتصرًا على المكان، وعلى الضحايا وعائلاتهم، فارتداداته وصلت إلى مناطق بعيدة، وبشر كثيرين؛ ليس لهول الكارثة، فعدد الضحايا الـ39 ليس كبيرًا مقارنة مع ما يحدث في بلدان أخرى، وأقرب مثال سورية، الجارة الجنوبية لتركيا، ولكن لمدلولاته المعنوية، وللرسائل التي يريد إرسالها لتركيا وللعالم.
أدّعي أن الرسالة الأولى من “داعش” إلى العالم هي أنها ضد “الحداثة”، وضد كل رموزها، سواء كانت في البلاد الإسلامية، التي تحول قادتها إلى حماة لـ “الصليبيين الجدد”، كتركيا مثلًا، أو في بلاد العالم الغربي.
الرسالة الثانية هي أن الاحتفال برأس السنة الميلادية حرام وكفر، ويستحق المسلم الذي يحتفل في هذه المناسبة الموت.
الرسالة الثالثة هي أن “الدولة الإسلامية – داعش” ليست ضد كل أنواع الحداثة، فهي ليست بحاجة الآن لتجريد الكتائب كي تغزو معاقل العدو وتدمرها، فشخص واحد “مؤمن” يستطيع قتل 39 “كافرًا”، وتخريب سمعة بلد سياحي، وتدمير اقتصاده، وأن خلاياه النائمة تستطيع الضرب في كل مكان في العالم، بواسطة اتصال هاتفي، أو شيفرة ينقلها هاتف ذكي من طرف العالم إلى طرفه الآخر، أو بواسطة الإنترنت. وهذا تطور هام في نشر “الإيمان”، الذي أصبح ينتقل بأسلوب الأحزاب، من حيث السرية، عندما كان الإنسان يمضي حياته في الحزب دون أن يعرف أكثر من شخص. وهكذا يغيب دور الجماعة في تربية الفرد، فيتطور وعيه وإيمانه بشكل فردي تمامًا، مستفيدًا من منتجات الحداثة، ومتأثرًا بما يطلع عليه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو الأفلام، أو المسلسلات.
الرسالة الرابعة هي للعرب، بعد أن تبيّن أن أغلبية الضحايا هم من بلدان عربية قدموا إلى تركيا للاحتفال بالعام الجديد، فكان نصيبهم الموت. صحيح أن في هذا الأمر مصادفة، إلا أن رسالة “داعش” وصلت، مع ذلك، إليهم، ومضمونها: سنحصدكم أينما كنتم إذا لم تعلنوا التوبة ومبايعة “الدولة الإسلامية”.
وعلى الرغم من عدم وجود سوريين بين الضحايا، أو الجرحى، إلا أن وجود ملايين السوريين في المدن التركية قد يُرشّح أحدهم كي يرسله حظه ليوجد قرب “انتحاري” وهو يُفجّر نفسه، انتحاري قادم من تاريخ يريد استعادة “خلافة” إسلامية هدفها نشر الإسلام الصحيح، و”فتح روما”، وإحباط خطط من يريد تدمير هذه “الخلافة” وحواضنها الاجتماعية.
قبل سنوات، كنتُ سوريًّا ضائعًا بين دفتي تاريخ الانتحاري، وأعدائه، فكتبت في دفتري العثماني تساؤلات أعيد نشرها لارتباطها بشكل ما بهذا الموضوع:
اليوم الأول من أيلول/ سبتمبر، استيقظت في السادسة صباحًا على أمل أن أكون من أوائل رواد “أيا صوفيا”. وصلت إلى الباب قبل الثامنة بقليل، فصدمتني يافطة نحاسية معلقة قرب الباب تقول: إن الإثنين هو يوم عطلة. شعرت بالإحباط، أنا الذي كان الحماس والنشاط يُغلّفني في هذا الصباح، وتساءلت: ما الذي يمكنني فعله الآن: هل أعود إلى المنزل، أم أذهب إلى مكتب أحد الأصدقاء لأسأله عن إجراءات الإقامة الدائمة لـ “الكندي” في تركيا؟
لكنني رأيت سهمًا يُشير إلى اتجاه “البازار الكبير”، فخطر في بالي الذهاب والضياع فيه، والتفكير في دور التجارة في إشعال الحروب، وفي نشر السلم. وعندما شعرت بعطش إلى القهوة العربية، مسحت المكان بنظراتي فرأيت مقهى في الطرف الآخر من ساحة “أيا صوفيا”. توجهت إلى المقهى وطلبت فنجانًا مضاعفًا من “الاسبريسو” مع حليب، وأخرجت رواية “الزّهير” من حقيبة الظهر، وقررت الاستفادة من الطقس الجميل، والصباح المنعش.
في ذلك الصباح، ذكَّرني عدد الناس القليل في ساحات الجامع الأزرق، الممتدة أمام ناظري، برمضان حمص الصيفي، حيث كنت أستغل انشغال الصائمين بالإفطار في بيوتهم فأذهب إلى مقهى “التوليدو” لشرب القهوة وتأمل الشوارع الخالية من الناس تقريبًا. هكذا كانت ساحات “أيا صوفيا” والجامع الأزرق والقصر السلطاني “توب غابي” في ذلك الصباح، وكان لطعم القهوة على لساني طعم حمصي بامتياز.
رشفت قهوتي بهدوء ومتعة، وأنا اقرأ قصة حب جميلة، وعندما ارتوت روحي من القهوة، بدأت أتفقد المكان، فاكتشفت أنني أجلس بين حمام حريم السلطان، الذي أمرت ببنائه السلطانة “هُرم”، زوجة السلطان العظيم سليمان القانوني عام 1556م، وبين الجدار الخارجي لأيا صوفيا. عندها، تساءلت عن معنى وجود كندي من أصل سوري في هذا المكان، بعد مرور ما يقارب 561 سنة على سقوط القسطنطينية على يد محمد الفاتح. فهذه المدينة، مع كنيستها “أيا صوفيا”، تُعدّ المكان المقدس الثاني بعد القدس عند المسيحيين الأرثوذكس. تبع ذلك سؤال أول، وثانٍ: هل أنا شامت بالعالم الغربي الذي انتصر عليه محمد الفاتح، وهل لمشاعري علاقة بالمخازي التي ارتكبتها الحملات الصليبية في أثناء سيرها نحو القدس؟ لا أعرف، ولم أستطع الوصول إلى جواب جازم في هذه النقطة، ولم يكن “الإرهاب الجهادي” حاضرًا في ذهني، وقتها، فنحن في عام 2014. ولكنني تذكرت واقعة حقيقية حدثت بين زوجين سوريين؛ الزوج مسلم والزوجة مسيحية. حدث بينهما ما يحدث من خلافات بين الأزواج، فتطلّقا بعد ما يقارب 15 عامًا من الزواج. الطريف في الأمر أن الزوجة المسيحية اكتشفت، مندهشة، أنها كانت متزوجة من رجل مسلم، وهذا ما كانت تردده في الإجابة عن سبب طلاقها. وهذا ما يشبه نسبيًّا ما يحصل بين الغرب “المسيحي”، وتركيا “المسلمة”؛ فالغرب اكتشف “مدهوشًا” أن تركيا ما تزال، كما عهدها، مسلمة، وأنها تريد “غزوه” في عقر داره، وتركيا تكتشف أن الغرب مسيحي وصليبي يريد تدمير الإسلام بأفكاره عن الديموقراطية وحقوق الإنسان، والانقلابات أيضًا، حتى بعد أن نبت “داعش” من شقوق الخلافات بين الطرفين، مهددًا الجميع.
بدأت القهوة تبرد حاملة مرارة التاريخ، بهزائمه وانتصاراته، فقررت التوقف عن التساؤل، لأنه في غياب مُحاور وناقد تزداد الأوهام الذاتية وتتضخم، دون أن يوقفها أحد.
المصدر