on
رحلة رينيه غينون.. الشرق حينما كان خلاصاً
لم تكن الحياة المادية إثر الثورة الصناعية في أوروبا، وفي فرنسا على وجه الخصوص، دافعاً وحيداً لأن يتوجّه الباحث رينيه غينون (بلوا 1886- القاهرة 1951) صوب الشرق بمفرداته وتراثه، إذ كان يمقت صراعات الكنيسة مع الحداثة اللتين انهمكتا في توجيه الاتهامات لبعضهما البعض، وتركتا جيلاً ينتمي إلى مفردات الميتافيزيقا والمباحث الوجودية حائراً من أمر كلا الفريقين الذين قسّما شكل الحياة في أوروبا إلى قسمين يعادي كلاهما الآخر.
وخارج دائرة أوروبا كان غينون الشاب في ذلك الوقت لا يمنح ثقته أيضاً للمستشرقين، الذين لا يرون في الشرق سوى قشرته الخارجية، لذا كان شكل الحياة في أوروبا في ذلك الوقت طارداً، ومحفّزاً لباحث شاب أن يذهب بأدواته وعدّته المعرفية نحو الشرق.
صدور كتاب “الرجل ومعنى الحقيقة” لـ سليمان رزقي عن “دار البراق” في باريس مؤخراً، يمثل استعادة لرحلة رينيه غينون في التراث والتصوّف، وهي رحلة جديرة بالدراسة لعدّة أسباب تتعلّق بالأفكار التي طرحها وانشغل بها على مستوى التصوّف وتاريخه وتطوّره في ثقافات مختلفة.
ففي الوقت الذي ترتفع فيه نبرة الإثنيات وانغلاق الديانات على بعضها البعض، كان غينون من أبرز منتقدي الكنيسة في أوروبا، وذلك لانغلاقها على نفسها ونكرانها ما أسماه بـ”أشباه الديانات” مثل البوذية والهندوسية وغيرهما، وجاء صراعه مع الكنيسة من منطلق إعادة إحيائه لمصطلح وحدة الوجود، فضلاً عن أن مصطلح “الالتحاق” من أبرز المصطلحات التي نَظَّرَ لها، عندما “التحق” بمدرسة الإسلام وبدَّلَ اسمه إلى عبد الواحد يحيى، فلم يكن يرى فواصل كبيرة بين الديانات بقدر ما كان يراها مدارس يجدر الانتقال فيما بينها.
ومن أرضية الاستشراق يندر وصف رينيه غينون بالمستشرق من جانب الباحثين العرب، فتارة يُنعت بـ “العارف بالله” وتارة أخرى بـ”مولانا” ولا سيما من قبل المهتمين بثقافة العرفان، حيث لم يكن هذا الباحث الغربي الزائر، أو المعتمد في رواياته عن الشرق على الرواة المحليين، بل كان باحثاً مقيماً إن جاز التعبير.
فقد جاء إلى مصر منقّباً في مخطوطات التصوّف عام 1930، وانتهى به المطاف أن يقيم بقية حياته في “فيلا فاطمة” (سماها على اسم زوجته) في “شارع نوال” بحي الدقي في القاهرة، مبدّلاً اسمه ومحل إقامته ووفاته.
ربما كان انتماء غينون إلى التصوّف العرفاني يسهل تفسيره، وهو المنفتح على طرائق كافّة الديانات في الوصول إلى الله ووحدة الوجود، ففي ظلّ إيمان أصحاب المنهج العرفاني بمبدأ “عدد الطرائق بعدد أنفاس الخلائق”، يُعتبر هذا المبدأ منسجماً تماماً مع مساعيه في التوليف بين الديانات وابتكار طرائق أخرى تقدّم مساحات معرفية ونفسية لتنفّس الروحانيات الجديدة.
لم ينفتح على الدين الإسلامي والتصوّف فحسب، فبقدر تأثّره بابن عربي تأثّر أيضاً بتراث أديان وفلسفات أخرى؛ مثل الطاوية والهندوسية، وكان تفسيره لرمزية الصليب بأبعاده الأفقية والرأسية بمرجعية هندوسية من أكثر الأعمال تعقيداً وانفتاحاً على الصعيدين المعرفي والروحي الذي يُحدثه توحّد الديانات في ما بينها على مستوى الرموز وتأويل دلالاتها.
ورغم أن بعض أعمال رينيه غينون كانت متأثّرة بالصراع في أثناء الحرب العالمية الأولى والثانية، إلاّ أنه حاول تقديم رؤى تذهب للتوفيق في معادلة الصراع بين الشرق والغرب إلى ما هو أبعد من الحلول الظاهرية، فلم يكن يريد معالجة العرَضْ (الحروب) بقدر ما كان يسعى إلى علاج المرض، لذلك كان منشغلاً بالسؤال عن ميكانيزمات عالمنا، حتى نستطيع الوصول إلى المبادئ الإنسانية بين الشرق والغرب، فالوحدة والاتفاق على المستوى السياسي والاقتصادي لن تكونا إلا وقتية ولا بُدَّ من وجود وحدة على المستوى الروحي والفكري لتنتهي هذه الصراعات، وهو ما جسّده في كتابه “الشرق والغرب وأزمة العالم الحديث”.
الباحث خالد محمد عبده، عضو هيئة تحرير “موقع طواسين”، قال في حديثه لـ “العربي الجديد” إن “القصة تبدأ بباحث عن الحقيقة التحق بالإسلام، لكنه يعتمد على الأديان السابقة، نزل مصر وأسلم على يد الشيخ عبد الرحمن عليش أحد مشايخ الأزهر، وقد اعتبره الشيخ عبد الحليم محمود في كتابه “المدرسة الشاذلية” مطوّر المدرسة الشاذلية في مصر في العصر الحديث”.
ويضيف “كان عبد الواحد يحيى ينتقد رؤية المستشرقين للتصوّف الإسلامي، حيث وصفهم بالفوقيين من منطلقات تفسيراتهم له بأنه منبثق عن المسيحية والفقه الإسلامي ومقتبس من القانون اليوناني، وكأن المتصوفة المسلمين مجرّد أتباع وليسوا مبدعين”.
ويلفت عبده إلى أن أستاذة الحضارة الفرنسية في “جامعة القاهرة”، زينب عبد العزيز بدأت بترجمة بعض مقالات عبد الواحد يحيى، ثم نقل المترجم المصري عمر فاروق نظرياته التراثية في كتاب صدر عن “المركز القومي للترجمة” في القاهرة، ثم أكمل الباحث الجزائري عبد الباقي مفتاح ترجمة عدد من المؤلّفات بعد حالة انقطاع معرفي عن آثار غينون دامت ثلاثة عقود على الأقل.
يُذكر أن رينيه غينون ترك 17 مؤلَّفاً نُشرت بعد وفاته؛ من أبرزها: “الشرق والغرب وأزمة العالم المعاصر”، و”هيمنة المادة”، و”مدخل إلى الطاوية”، و”مراتب الوجود”، و”مبادئ الحساب التفاضلي”.
صدى الشام