عن سورية والتعقيدات التي تكتنفها


القدس العربي

كما في كل الأزمات المديدة وبالغة التعقيد، لا يبدو أن ثمة نهاية للسرديات التي ولدتها وتولدها الثورة السورية. وكان لهذه السرديات من البداية وجهان رئيسيان: واحد يتعلق بالإطار الدعائي، عملية تسويغ المواقف والمقاربات، وتطهير الضمير لمن كان لم يزل لديهم بقية من ضمير؛ وآخر يتصل بقراءة الموقف، وتحديد طبيعة القوى وأوزانها وتموقعها. واليوم، وبعد ما يقارب السنوات الست على انطلاقة الثورة السورية، لم يعد ثمة ما يقال حول الوجه الأول للملحمة السورية الذين أعلنوا أنهم يدافعون عن نظام الأسد وعن الشيء المسمى بمحور المقاومة، حتى لو كان ذلك بسفك دماء مئات الآلاف من السوريين، وتدمير مدن سورية وبلداتها، لن يغيروا موقفهم. والمؤكد أن الشباب والشابات، من قضى منهم ومن لم يزل حيًا، الذين خرجوا في تلك الأيام من آذار/مارس 2011، ليعلوا من كلمة شعبهم ويطلبوا حقوقه، ليس بينهم اليوم من هو نادم على خطوات مواجهة الطغيان، التي فتحت الطريق لثورة الشعب. المشكلة ليست هنا، بل في الوجه الآخر للسردية السورية، في قراءة المنعطف الذي تمر به سورية الآن، وتلمس الخطوات التالية للثورة وقواها المختلفة.

ما نشهده في الأسابيع القليلة الماضية، سيما بعد سيطرة قوات النظام والميليشيات المتحالفة معه على شرق حلب، كان تقاربًا متزايدًا بين القراءتين: قراءة أنصار النظام وقراءة معارضيه. في تجليها الجديد، تقول السردية السورية شيئًا مثل: 1- أن هناك توافقًا روسيًا ـ تركيًا على وضع نهاية للأزمة السورية، حتى لو كان ذلك باستبعاد الأمم المتحدة والأمريكيين. 2- أن النظام وحلفاءه من الميليشيات الطائفية والقوات الإيرانية حقق انتصارًا كبيرًا، وأن استعادة النظام السيطرة على سورية هي مجرد وقت. 3- أن الأزمة السورية تسير، بالتالي، نحو فرض تسوية سياسية على قوى الثورة والمعارضة، ستعبر في جوهرها عن مصالح النظام وحلفائه. 4- أن الثورة السورية، كما العديد من الثورات الشعبية الأخرى منذ منتصف القرن التاسع عشر، قد هزمت، وأن المطلوب اليوم انقاذ ما يمكن انقاذه، والمراهنة على حقبة تاريخية أخرى، وربما جيل آخر، للمحاولة من جديد.

ليس ثمة شك أن وضع قوى الثورة والمعارضة السورية ليس جيدًا، وأن الأمور لا تسير لمصلحة هؤلاء منذ الدخول الروسي العسكري المباشر في الصراع على سورية في نهاية أيلول/ سبتمبر 2015. ولكن، وسواء كانت سورية تمضي نحو تسوية سياسية أو جولة أخرى من الصراع، فإن من الضروي بناء قراءة صحيحة ومطابقة للموقف. والواضح، أن القراءة التي أخذت في الشيوع مؤخرًا ليست صحيحة تمامًا، ولا مطابقة كلية للواقع.

الافتراض، مثلًا، بأن هناك اتفاقًا تركيا ـ روسيًا ناجزًا، وأن عجلة التسوية السياسية تدور، منذ صفقة حلب، على أساس من هذا الاتفاق، هو افتراض مبالغ فيه. المعروف أن العلاقات الروسية ـ التركية وصلت حد الصدام بعد إسقاط الطائرة الروسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2015. ولكن الطرفين، وكل لأسبابه، لم يرغبا في استمرار القطيعة؛ وسارعا إلى عقد مصالحة في يونيو/ حزيران 2016، فتحت باب العلاقات بين البلدين لبداية جديدة. في لقاء الرئيسين، التركي والروسي، في آب/ أغسطس الماضي، دشنت المرحلة الجديدة في العلاقات بموافقة روسية على عملية تركية عسكرية في الجانب السوري من الحدود التركية ـ السورية، أو ما يعرف الآن بعملية جرابلس ـ الباب. أرادت تركيا من العملية حماية أمنها القومي المباشر من توسع الاتحاد الكردستاني، الفرع السوري لحزب العمال، ومن تمركز داعش بالقرب من الحدود. الروس، من جانبهم، وصلوا إلى قناعة بأن أكراد الاتحاد الديمقراطي، وتجلياته المختلفة، باتوا أداة أمريكية، وأن التضحية بهم تعتبر ثمنًا بسيطًا لإعادة بناء الثقة الروسية ـ التركية.

ولكن، ومنذ بدء العملية التركية في نهاية آب/أغسطس، بدا واضحًا أن ليس ثمة اتفاق ناجز بين أنقرة وموسكو، وأن كل تقدم في العملية التركية يتطلب اتصالات جديدة وعلى أعلى المستويات بين مسؤولي البلدين. وحتى في اتفاق حلب، وبعد ذلك في اتفاق أنقرة حول وقف إطلاق النار، الذي فاوض فيه الروس ممثلين عن تنظيمات المعارضة المسلحة، لم تكن هناك مسودات جاهزة، وكان على الاطراف المختلفة أن تراجع مواقفها ساعة بساعة، قبل التوصل إلى اتفاق.

في أنقرة، على وجه الخصوص، أظهر الجانب الروسي قدرًا ملموسًا من المرونة في المباحثات مع ممثلي المعارضة المسلحة، بما في ذلك التخلي عن ما يعرف بمعارضة موسكو والقاهرة، كما عن الاتحاد الديمقراطي الكردستاني؛ وعن مطلبهم الأولي في إطلاق مباحثات الأستانة في 14 كانون الثاني/ يناير، أي قبل تولي ترامب مقاليد البيت الأبيض. ليس هذا وحسب، ولكن الشواهد على تباينات في الموقف بين روسيا، من جهة، وإيران ونظام الأسد، باتت أكثر مما يمكن تجاهله. ويكفي أن الروس فاوضوا الفصائل على وقف إطلاق النار بدون تواجد إيراني، وأن الإيرانيين هم من يحاول الآن تقويض الاتفاق، وبالتالي تهديد المساعي الروسية لعقد لقاء الأستانة وتقديمه باعتباره رمزًا لجهودهم السلمية.

من جهة أخرى، ليس ثمة شك في أن النظام حقق انتصارًا في حلب؛ ولكن هذا الانتصار أشر إلى ضعف النظام أكثر منه إلى قوته. أنجزت معركة حلب بدعم ميليشياوي طائفي، على الأرض، وروسي هائل، في الجو، ووفرت دليلًا قاطعًا على أن آلة النظام العسكرية لم تعد ذات وزن ملموس في الحرب. وحتى بعد حلب، وإن أخذ في الاعتبار حجم الجغرافية السورية الموزعة بين قوى المعارضة، التنظيمات الكردية، داعش، والجيش الحر المدعوم من تركيا، فإن منطقة سيطرة النظام لا تزيد عن ثلث مساحة الجمهورية السورية. هناك، بالطبع، خلل كبير في علاقات تنظيمات المعارضة المسلحة، في عددها، في سلوكها السياسي، في تعاملها مع عموم السوريين، وفي أدائها العسكري؛ ولعبت جوانب الخلل المتداخلة هذه دورًا مباشرًا في تأزم الموقف العسكري خلال الشهور القليلة الماضية. ولكن هذا التأزم لا صلة له بحيوية متجددة في جسم النظام، الحيوية التي لا يوجد عليها من دليل.

المؤكد، على أية حال، أن تعقيدات الأزمة السورية تبدو أكبر بكثير من إرادة ورغبات أي من أطرافها المختلفة. الانعطافة الحالية في سورية هي صنيعة التقارب الروسي ـ التركي وليس شيئًا آخر؛ ولكن حسابات أنقرة وموسكو تحيطها الشكوك وتواجهها التحديات من كل جانب. يدرك الروس أن ليس هناك من حسم عسكري ممكن في سورية في المدى القريب، ويحاولون إعادة بناء صورتهم كقوة حريصة على السلم والاستقرار، وقوة قادرة على حل أزمة بحجم سورية. ويحاول الأتراك إظهار حسن نواياهم، بعد أن وفرت موسكو فرصة لعملية جرابلس ـ الباب. ولكن، وبالرغم من الدور الكبير الذي لعبه الروس في حماية ما تبقى من قوات النظام، وقوات إيران والميليشيات المرتبطة بها، ودعمها، فإن الإيرانيين ليسوا أداة طيعة في يد الروس. كما أن قوى المعارضة، وبالرغم من دعم تركيا وتأييدها، لا تأتمر بأوامر أنقرة. وإن كان ممكنًا الآن، ولأسباب تتعلق بكل من أنقرة وموسكو، على السواء، استبعاد الأمريكيين (والأوروبيين)، فإن أحدًا لا يعرف كيف سيكون عليه موقف إدارة ترامب، ومقاربتها للشأن السوري.

المسألة، باختصار، أن لقاء الأستانة قد يعقد وقد لا يعقد، وأن هذا اللقاء قد يفضي، بالفعل، إلى جنيف، وقد يخفق كلية في إطلاق المسار السياسي. كما أن جولة أخرى من مفاوضات جنيف، بعد ذلك، قد تؤدي، في النهاية، إلى تسوية سياسية وقد تنتهي إلى مثل ما انتهت إليه سابقاتها. هل ثمة انعطافة ما في سياق الأزمة السورية؟ نعم، بالتأكيد. ولكن تعقيدات الأزمة لم تزل على ما هي عليها.




المصدر