“يوم حلُم مثقفو وفنانو السلطة بإجرام بديل”


ضاهر عيطة

لن نخوض في تفاصيل وأشكال الجرائم التي تواصل عصابات الأسد ارتكابها بحق كل أشكال الحياة، سنكتفي بالوقوف عند تفصيل محدد يكاد يتكرر حدثًا يوميًا، أدواته طائرة وبرميل محشو بمتفجرات وشظايا شديدة التدمير والقتل، يلقى على مدرسة أطفال فيحيلها إلى ركام، مخلفًا عشرات الضحايا والمعاقين والمشوهين. ولنسأل المثقفين والفنانين الذين أدانوا الثورة منذ البداية واتهموها بالإرهاب والأسلمة والفوضى: أليس إسقاط البراميل المتفجرة على طلاب المدارس عمل إرهابي يستحق منكم التنديد على أقل تقدير؟

حسنًا لن نرهق أبصاركم وضمائركم بكل هذه الأحداث الدموية، ولنبتعد عن كلية الصورة التي يستحيل على الأبصار المتعامية أن تلم بها، ولنكتف بالتركيز على مشهد صغير معتمدين على شفافية أحاسيس ادعى أصحابها أنهم اشتهروا بها؛ تاركين لمخيلتهم مطلق الحرية في متابعة مشهد، لا بل صورة، صورة واحدة لطفل نجت روحه من قصف برميل طال مدرسته، دون أن ينجو جانب من جسده، هل بمقدور هؤلاء المثقفين والفنانين أن يعايشوا صراخه وبكاءه ورعبه وهول الصدمة التي حلت به، وستترك أثرها في مصيره؟ ألا تضاهي هذه الصورة في مأساتها، جميع المآسي والتراجيديات التي خطتها قصائدهم ورواياتهم وفنونهم؛ وحتى تلك التي تعايشوا معها على المسرح وفي السينما والتلفزيون، واتخذوا منها مواقف فكرية وأخلاقية صارمة؟ في حين لم نسمع أو نطلع على أي تصريح أو مقال أو مشهد تمثيلي يجري فيه إدانة رمي البراميل على أطفال المدارس من أي مثقف أو فنان من هؤلاء! والمريب في الأمر، أن أبصارهم وضمائرهم وأقلامهم تغدو حاضرة أمام أي انتهاك يمارس على يد غير يد عصابات الأسد؛ حتى لو حدثت في أقاصي الأرض، في حين نراهم أمام جرائم وانتهاكات النظام السوري غارقين في الخرس والطرش والعماء.! بل والأخطر من ذلك، تسويغ بعضهم  لكل تلك الانتهاكات والجرائم؛ حتى لو كانت براميل تسقط يوميًا على مدارس الأطفال، سيما وأنه لم يسبق أن تمت الإشارة من قبلهم -ولا مرة، لا من قريب أو بعيد-، إلى أي طفل قتل بواسطة برميل، أو هجر نتيجة مجزرة وقعت على يد شبيحة الأسد، فعند أمثال هؤلاء المثقفين والفنانين جميع الأطفال الذين ماتوا في سورية، أو هجروا منها، هم ماتوا وهجروا بفعل قذائف وسكاكين داعش والإرهابيين، على الرغم من أن القذائف والسكاكين متوافرة -أيضًا- لدى عصابات الأسد، لكن تلك العصابات في نظرهم ليست إلا نظام يتمتع بنزاهة عالية، لا تخوله اطلاق القذائف على المدنيين أو ذبحهم بالسكاكين.

وبعيدًا عن آلاف البراميل وآلاف الجثث التي خرجت صورها من السجون والمعتقلات، وبعيدًا عن استخدام السلاح الكيماوي وغيرها من الانتهاكات الصارخة التي يستمر النظام السوري في ارتكابها، وبعيدًا عن التهجير الذي حدث مؤخرًا في أحياء حلب الشرقية، لنعد بصحبة هؤلاء المثقفين والفنانين إلى البدايات، علها تكنس شيئًا من العماء عن أبصارهم، ولنذكرهم بالرصاص الحي الذي ووجهت به التحركات المدنية في بداية الثورة السورية، ومن المؤكد أنها كانت مع مثل هذا العنف الممنهج قد مست جانبًا من شفافية أحاسيسهم  ومشاعرهم، وأحرجت صمتهم أمام جمهورهم، ما جعلهم يحلمون بولادة طرف ثان غير النظام، يمارس عنفًا مشابهًا لعنفه؛ كي تستريح ضمائرهم وتهتدي أقلامهم وألسنتهم، فسارعوا منذ البداية، وقبل ظهور تنظيم داعش وجبهة والنصرة -على سبيل المثال-، إلى خلق أعداء من وحي مخيلتهم، بحثًا عن مسوغات لظاهرة اطلاق النظام السوري الرصاص على المتظاهرين السلميين، فما كان منهم إلا أن جعلوا من هؤلاء المتظاهرين إرهابيين، وزعموا أن كل سلوك صادر عنهم ما هو إلا فعل إرهابي، بينما اجتهدوا في أن يحولوا جميع انتهاكات النظام و جرائمه -وعبر عقود من الزمن- إلى أعمال جليلة! فبقدرة قادر تغدو هزائمه عندهم انتصارات، وسرقاته أعمال خيرية وإخفاقاته نجاحات، وهكذا أبصرناهم، وقبل أن يظهر أي عمل مسلح من جانب الثوار، يتحدثون عن مسلحين من وحي مخيلتهم وعن إرهابيين افتراضيين، ولحسن حظهم لم تخيب الأجهزة الأمنية أمانيهم وأحلامهم، فجرى الدفع مرات كثيرة بعناصر من الأمن للاندساس بين المتظاهرين لإطلاق الرصاص على قوات الأمن، ومن حينه بدأت رؤى وأحلام هؤلاء المثقفين والفنانين تصدق وتتحقق. فبعد مذبحة البيضا وما تلاها مذابح على يد شبيحة وجنود الأسد، استدعت الضرورة إيجاد طرف أخر ينافس النظام في ممارسة تلك المذابح، فلاح طيف داعش المغرم بالذبح العلني في مخيلتهم؛ حتى قبل أن يولد هذا التنظيم، وانطلاقًا من مخيلتهم هذه بدؤوا ينثرون فيروس الإجرام في سراديب الأفكار ويهيئون الجغرافية السورية لتفشيه، ففتحت أبواب السجون ليطلق سراح الإرهابيين، وراحت الآلة الإعلامية السورية تمارس دورها المطلوب، إلى أن صار الحلم بطرف إرهابي بديل من إرهاب النظام، أمرًا واقعيًا، وباتوا أمام مجرم فعلي ينافس النظام في حلبته، وتستحق جرائمه أن تدينها أقلامهم وتندد بها قيمهم وأفكارهم، ناسين أن أخسّ المناورات الفكرية هي تلك التي تندد بجرائم، وتجمل جرائم أشد شناعة وفداحة.




المصدر