ثورة شعبية.. أم ثورة وطنية ديمقراطية؟
13 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2017
عمار ديوب
يناقش مثقفو سورية في الأسابيع الأخيرة طبيعة الثورة السورية. أهي وطنية ديمقراطية، أم شعبية، أم ثورات لفئات متعددة، كما بدأ بعضهم يتحدث عنها، أم هي كل ذلك وسواه؟ يُظهِر النقاش اختلافًا في فهم الواقع السوري قبل الثورة، وبعد ست سنوات مضت عليها. لا شك أن ما يحدث في سورية يتحمل أكثر من قراءة وتأويل؛ فليس من بنية اقتصادية صناعية، وليس من نظام ديمقراطي، وليس من نظام قروسطي بالكامل. طرحُ السؤال سليم كلّية، ولا سيما أنّه يأتي بعد خسارة الثورة مدينة حلب ومدن ومناطق كثيرة حُسبت عليها، ودخول سورية بما يشبه الاحتلالات المتعددة. وعلى الرغم من تفاؤلنا الحذر بنتائج التوافقات التركية الروسية، فإن كثيرًا من المحللين يتشاءمون حيال ذلك، ويؤكدون أن الروس يتلاعبون بالمعارضة وبالفصائل، وأن مشروعهم الحقيقي يكمن في الإجهاز على الثورة، وبالتالي؛ خيارهم هو خيار النظام نفسه، أي الخيار العسكري، وليس تأجيل إنهاء “النصرة” و”داعش”، ومقابل ذلك تصفية الفصائل المحلية، سوى مؤشرًا إلى الخلاصة التالية: تدجين المعارضة أولًا، والإجهاز على “النصرة” و”داعش” ثانيًا. ما نريد قوله، أن التراجع الكبير للثورة والاحتلال الروسي وبقية الاحتلالات، طرح ضرورة النقاش، ومن هناك مراجعة كتلة من المثقفين لسلوك المعارضة، وطرح مشكلاتها عبر سنوات الثورة، ومحاولة صياغة بديل سياسي أولي لإنهاء التذرر والتشتت والضعف الذي عليه المعارضة. المراجعة وعلى الرغم من أنها أثارت قضايا صحيحة، حول خطأ الأسلمة والعسكرة الفوضوية والتبعية للخارج، وسوى ذلك، وهو ما قيل بنصوص احتجاجية في السنوات السابقة، إلا أنها كررت الشعارات التي رفعتها المعارضة ذاتها حول الحرية والكرامة، ورفضت سواها.
ولكن أليس الاكتفاء بهذه الشعارات وحدها هو ما أسهم في قيادة الثورة إلى النتائج الكارثية؟ هنا توجد مشكلة إذن. طبعًا المشكلة تتأتى من الرؤية الفكرية للمراجعين، فهم يتبنون الرؤية الليبرالية للواقع السوري وللثورة ذاتها، ومن هناك يُشار إلى أن الثورة ثورة وطنية ديمقراطية، أي: إن اقتصادها ليبرالي، وهي تتحرك في فضاء الحرية والديمقراطية والمواطنة بالمستوى السياسي. قبل أن ندقق طبعًا الثورة أكدت الحرية والكرامة، ولكن ما الثورة ذاتها؟ وما فهمها لهذه المقولات؟ الثورة السورية أتت في إطار ثورات عربية متعددة، ولم تبرز في العقود السابقة، وكان عام 2011 عام الخوف الكبير للأنظمة العربية دون استثناء، وسارعت معظمها لإجراء إصلاحات وزيادات في الأجور لتفادي الثورة. محرك هذه الثورات وجود كتلة بشرية كبيرة عاطلة عن العمل أو بأجور زهيدة، ووجود مافيات سلطوية ومالية متداخلة مع بعضها وتقوم بنهب كلي للدولة وللثروات المحلية، وبالتالي؛ هناك تأزم كبير يتطلب شعلة ما ليتفجر، وكانت تونس، وتكرّر المشهد عينه في كل الدول العربية. أطلقت تسمية الثورات الشعبية أولًا، وفي مصر وتونس قيل بشعارات تخص العدالة الاجتماعية بشكل واضح، ولاحقًا بدأت التسميات الأخرى تحاول ضبطها والسيطرة عليها وتجييرها لصالح رؤية فكرية ليبرالية محددة. الثورة الشعبية تعني أن كتلة بشرية مهمشة وقد باتت حياتها لا تطاق، وأن الثورة هي الحل لكل أزماتها. المثقفون وأبناء الطبقة الوسطى يتلمسون ذلك، وهم أيضًا من فشل سابقًا في إحداث ثورات شعبية تُخلخل النظام القائم وتهدمه، وفي سورية فشلت حركة المنتديات بعد عام 2000 في هز النظام، وقمعها قمعًا تامًا؛ ولكن بوجودِ كتلٍ بشرية كبيرة ومتضررة، فإنّ دور الفئات تلك ومنها المعارضة يصبح أساسيًا.
إن تجاهل الكتلة المجتمعية الكبيرة المتضررة من السياسات الليبرالية، بعد ست سنوات، يصبح عملًا أيديولوجيًا كاملًا. هذه الكتلة هي كذلك، بسبب سياسات ليبرالية جديدة طُبّقت عالميًا، ورافق ذلك تراجع دور الدولة والانتقاص من حقوق الفقراء، وسُنّت قوانين جديدة لصالح الأثرياء ومافيات السلطة. إذن؛ حاجات تلك الكتلة هي الأساس في أي رؤية جديدة لتغيير برنامج المعارضة ولتتجذر مجتمعيًا ووطنيًا بالفعل، ولتستعيد الحواضن الثورية التي اجتثت وهجرت ودمرت منازلها وحياتها، وكي ننطلق من الواقع، وليس من رؤية ذهنية، نضع الثورة فيها؛ الانطلاق من الواقع يقول بضرورة الانطلاق من مشكلات تلك الكتلة، أي: العمل والسكن والصحة والتعليم، وكذلك الحريات العامة وتفكيك الدولة الأمنية، وملاحقة الفاسدين وإعادة أموال الدولة للدولة وكل المنهوبات التي تساوي المليارات، وتأسيس نظام سياسي ديمقراطي يصون حقوق الأفراد وأعمالهم وحرياتهم السياسية، سؤال الثورة شعبية أم وطنية ديمقراطية، والتأكيد أنها وطنية ديمقراطية، يذهب بالمعارضة والفصائل والثورة ذاتها لتخون نفسها حين تصنفها ثورة سياسية فحسب. الثورة شعبية ويجب التمسك بحق الناس بالعمل وبتصنيع البلاد وبالعدالة الاجتماعية لتنهض ولتكون مؤيدة فعلًا لأي برنامج سياسي جديد. لا يمكن أن ينجح ويستقطب برنامج سياسي الشعب، وحقوقه مغيبة بالكامل. لهذا أجد أن تلك المراجعة تخسر كثيرًا حينما تكرّر الشعارات ذاتها. طرحها لمسألة أن إسرائيل تحتل أراضي سورية مسألة صحيحة كلية، وهي محاولة لإغلاق الباب أمام معارضين سوريين زاروا إسرائيل، ولأن في سورية مسألة وطنية اسمها الجولان، وكذلك الأمر حينما يُندَّد بدور الجهادية، ويصبح من الخطأ البحث عن دور جديد للأسلمة السياسية، فالإسلام السياسي أثبت فشله بالكامل، وأنه فئوي، وطائفي، فهو يُصنف النظام وبقية المعارضة والشعب وفقًا للهويات الدينية، وبالتالي؛ لا علاقة له بالثورة كما نطرحها هنا.
الثورة شعبية بامتياز، ولها مطالب متعددة اقتصادية وسياسية وثقافية، وتستهدف بناء دولة للكل السوري، أي دولة علمانية ديمقراطية بكل وضوح وجلاء، دولة لا تعادي الدين وترفض كل تسييس للهويات الدينية أو غلبة طائفة على أخرى؛ وبمعنى أخر: إن أي برنامج سياسي لا يطرح قضية العمل والصناعة وإعادة الإعمار، عبر البطالة السورية، ويؤكد الديمقراطية وعلمنة الدولة وإجراء محاكمات عادلة، سيكون وصفة جديدة لإنهاء أي طموح نحو هوية سورية تجمع السوريين وتنهي كل أشكال الاحتلال أو التدخلات الخارجية. إنّ جميع “طبقات” المجتمع السوري معنيةً بالمشاركة في تجذير الحرية والتحرر، وهذا غير ممكن دون مشروع صناعي ينهض بسورية، وكذلك مشروع تحرري يُنهي الاحتلال، ويُقر دستوريًا مسألة الموطنة وأن الأفراد متساوون، ولهم الحقوق ذاتها، وليس من سلطة تُحدّد لهم الحقوق سوى سلطة الدستور والقوانين.
[sociallocker] [/sociallocker]