on
زيغمونت باومان.. مجذاف أخير في حداثة سائلة
يلحظ دارس ومتابع منجز عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان، والذي رحل في التاسع من الشهر الجاري في مدينة ليدز الإنكليزية، تحوّلات المواضيع التي شغلته منذ مطلع الستينيات وحتى يومنا، وهو الذي اعتنى بوصف تحوّلات الإنسان المعاصر.
لمع اسم باومان منذ دراسته عن صراع الطبقات في المجتمع التي تناول فيها الطبقات الاجتماعية والحركة العمالية في بريطانيا في ستينيات القرن الماضي، وهي الدراسة الأولى التي صدرت له في اللغة الإنكليزية، قبل أن يغادر حقل دراسة الطبقات بكتابه “ذكريات من الطبقية”، ليتحوّل لاحقاً – أي في منتصف الثمانينيات – إلى دراسة ونقد مجتمع الاستهلاك وما بعد الحداثة.
ترك باومان (1925-2017) أكثر من خمسين كتاباً، أبرزها “حيوات مهدورة” (2004) و”حب سائل” (2003) و”بحث في السياسة” (1999) و”مجتمع تحت الحصار” (2002) وغيرها، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من المقالات الفكرية والنقدية في مجالات الاجتماع والاقتصاد والسياسة.
باومان الذي عرف بتأثره بالمنهج الماركسي في التحليل، قدّم تحليلاته النقدية التي تناول فيها جملة من الموضوعات الفكرية المتقدمة ابتداءً بالطبقية وأنماط الحراك داخل المجتمعات مروراً بأكثر قضايا القرن العشرين إشكالية كالعلاقة بين الحداثة والهولوكوست، وليس انتهاءً بالمذهبية المادية وأنماط الاستهلاك في مجتمعات ما بعد الحداثة.
في مطلع تسعينيات القرن الماضي، صاغ عالم الاجتماع البولندي مصطلح “الحداثة السائلة” لوصف التحوّلات التي تعصف بالعالم المعاصر وهي التحوّلات التي جعلت من إنسان ما بعد الحداثة دون أية مرجعية أخلاقية أو جذر يمكن الاستناد إليه في دراسته.
في كتابه “الحداثة السائلة” (2000)، يستعير باومان اسم الكتاب (ومفهوم السيولة الذي اشتغل عليه) من الخصائص الفيزيائية للمادة، إذ تتميّز المواد السائلة عن الصلبة بعدم المحافظة على سمة التماسك بين مكوّناتها في حالة السكون، وفي أنها لا يمكن أن تحتفظ بشكلها بسهولة وبالتالي تبقى قابلة للتغيّر والتبدّل بشكل دائم، وهي المقاربة التي ذهب بها بعيداً في فرضيته بأن العالم يتّجه نحو مزيد من السرعة والتبدّل المستمر إلى حد إعادة تشكيل طبيعة الإنسان المعاصر الذي لم يعد يحتمل أشكال الثبات والديمومة، وهو ما يُنتج بحسب توصيفه “إنسانَ الحداثة السائلة”.
الحداثة في هذا المسار أحالت كل المواد الصلبة في طريقها إلى سائلة، بفعل دعوتها للتحرّر من الماضي والدين والمقدس والتقاليد، لكنها في الوقت نفسه كانت قادرة على خلق مواد صلبة جديدة، وهنا كان مبعث المشروع النقدي لدى باومان في هذا السياق.
يقول هنا: “مع مجيء الحداثة، التي وعدت بزيادة متصلة في السعادة، أصبح ثبات ظروف المعيشة مع غياب تحسّن ملحوظ ظرفاً يمكن اعتباره في حد ذاته دلالة على الحرمان: إذا ارتقى مستوى معيشة فئات أخرى من الناس، على النقيض من ارتقاء مستوى فئتك المعيشية، أو إذا ارتقى الغير أسرع من ارتقائك، يصبح الموقف الذي كابدته بالأمس في صمت يُعاد طرحه كحالة من الحرمان، وتستشعره كانتهاك للعدالة”.
يقدّم صاحب “حيوات مهدورة” في فرضيته عن تحوّل المجتمع في أواخر القرن العشرين من مجتمع منتج إلى مجتمع مستهلك، ومن الحداثة إلى ما بعد الحداثة. لكن هذا التحوّل وعلى النقيض مما ذهب إليه سيغموند فرويد بخصوص مقايضة التطوّر: فقد عُطلت الحماية – على حد تعبير الأخير – من أجل الاستمتاع بأقصى درجات الحرية، أي حرية الاستهلاك، وحرية الاستمتاع بالحياة، مما أكسب الفرد تلك الخصائص.
في كتابه “الهولوكوست” (1989) بنى باومان مادته الجدلية من خلال نفيه أن يكون الهولوكوست مأساة يهودية صرفة بالأساس، معتقداً بأن الهولوكوست نفسه هو ثمرة للحداثة، من خلال التقاء مجموعة من الأسباب ساهم فيها شكل الدولة الألمانية ومؤسّساتها.
أما في كتابه “الأزمنة السائلة: العيش في زمن اللايقين” (2007) فيحاجج من أجل محاولة إعادة إنتاج فهم جديد مرتبط بتحوّلات عالم اليوم الذي لم يعد التقسيم الجغرافي فيه يُحدث فرقاً معرفياً وخارقاً على شكل التقسيمات الاقتصادية والثقافية والسياسية الأخرى، عند هذه النقطة ينطلق في محاولات التفسير من خلال إيجاد العلائق التي تربط بين مفاهيم مثل العقلانية والحداثة والبيروقراطية والإقصاء الاجتماعي.
في كتابه الأخير، الصادر العام الماضي، “غرباء على بابنا” (2016)، تناول باومان الخطاب الإعلامي والسياسي الذي استخدمه الغرب في التعامل مع قضايا اللاجئين، معتبراً قضية اللجوء الحديثة قضية ناجمة عن رعب اجتماعي عميق وحروب ساحقة، داعياً فيه إلى تقليل النزعات العنصرية العرقية، وتقديم صورة مستقبلية تتجاوز وتتنازل عن الشرط العرقي وتعلي السمة الإنسانية من أجل الوصول إلى حل يقلل من التكلفة الإنسانية لهذه القضية.
صدى الشام