عن الساسة والعسكر في مناسبة أستانا

14 يناير، 2017

عبد الرحيم خليفة

نحت التشكيلات العسكرية تدرّجًا نحو الاستقلالية عن الأجسام السياسية الممثلة للثورة، وشكّلت مجالسها الخاصة المعبرة عنها، بوصفها كيانات مستقلة، لها خطابها الذاتوي، ورؤاها الخاصة التي لم تكن متطابقة، أو منسجمة، مع شعارات الثورة وأهدافها دومًا.

الحرب أخطر من أن تُترك للجنرالات، كما يُقال، ومصير سورية أخطر من أن يترك لهذه الجماعات وحدها، مهما قيل عن تضحياتها، وإمساكها بزمام الأمور على الأرض، خصوصًا أنه قد ثبت فشلها مرارًا وتكرارًا، سواءً لجهة وحدتها، أو استقلاليتها، أو للالتزام بمبادئ الثورة وبرنامجها الاصلي في الحرية والكرامة والعدالة، وجنوحها نحو مشروعات طوباوية، أفقدتها جمهورها وتعاطف العالم مع الثورة.

كان ذلك منذ بداية الجنوح للعسكرة، ثم تواصلت مع تعدد الجماعات “الخاصة”؛ إذ فكّت -هذه- ارتباطها بـ “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية” الذي يُفترض أنه “الممثل الشرعي”، والمُخوّل برسم السياسات ووضع الخطط والاستراتيجيات، مثله كمثل سابقه “المجلس الوطني”، وكثيرًا ما صدرت مواقف متناقضة عن الجهتين؛ حتى أن “هيئة الأركان” في الجيش الحر، لم تكن صاحبة سلطة على الفصائل المقاتلة على الأرض، ولا تخضع لقراراتها، ولا تلتزم بخططها، إلى أن انتهى الأمر بافتراق تام، واضمحلال لمجموعات الجيش الحر، أو المنضوية تحت اسمه؛ لصالح جماعات ورايات معظمها إسلاموية، تحمل مشروعات عابرة للحدود، لا تعترف بالوطنية السورية، بغطاء من بعض مكونات الائتلاف نفسه التي أتقنت لعبة توزيع الأدوار، وتعددها!!

نتج عن هذا الخلل أزمات عديدة، وانسحب الأمر على “الحكومة الموقتة” وعملها، وأسهم -إلى حد كبير- في تكريس المأزق الراهن، أما اليوم، ومع الحديث عن اجتماع أستانا الذي رتبته روسيا، يجري الحديث عن دعوة هذه الجماعات للمشاركة في الاجتماع، بدون غطاء سياسي يُعبّر عن الثورة ومؤسساتها، وخاصة الائتلاف، و”الهيئة العليا للمفاوضات”، وإذا دُعي أحد الطرفين، فسيكون حاضرًا بوصفه جماعة مستقلة لا يربطها رابط بغيرها، أو ليست جزءًا من كل، بمرجعية واحدة وبرنامج سياسي واحد؛ ما يفتح الباب واسعًا من جديد لنقاشٍ ظل يدور مواربة، تنقصه الصراحة والوضوح.

على مدى سنوات الثورة بقيت العلاقة بين الجسمين: السياسي والعسكري، واهية وغير واضحة بالقدر الكافي، يشوبها الغموض وأحيانا الصراع، كما أنها في أحيان كثيرة بدت مقلوبة، فيتحكم العسكري بالسياسي، ويستجدي هذا اعتراف ذاك أو رضاه عن أدائه.

رضخ الائتلاف -منذ البداية-  لتركيب المعادلة بهذا الشكل المختل، نتيجة سيطرة بعض أطراف الائتلاف صاحبة المصلحة به في استمرار العلاقة على هذا النحو، ولم يعمل على معالجتها أو تطويقها، أو لم يستطع؛ حتى صار للجماعات المسلحة قنوات اتصالها المستقلة مع الدول، وممثلوها المستقلون، والناطقون باسمها، وحتى كتابها المعبرون عن مواقفها في الصحف الغربية، بعيدًا عن مؤسسات الثورة، واستفحل الخطر؛ حتى بلغ ذروته اليوم، بتوجه هذه الفصائل الى أستانا، بعد محادثاتها مع الطرف الروسي بضمانة تركية، دون تنسيق؛ ولا حتى تشاور مع المؤسسة السياسية، وما يعزز هذه المخاطر وهن أجسام ضعيفة ومريضة، تستجدي أمصالًا وجرعات دوائية لإطالة عمرها وإبقائها على قيد الحياة.

بعيدًا عن أي ملاحظة حول أستانا والدور الروسي، وما يُمكن أن يُحاك هناك، يجب تأكيد أن انفراد العسكر بهذا التوجه أمر غير مقبول، ولا سيما أن المعلومات والتقديرات تشير إلى أن هدف أستانا سيكون إنجاز اتفاقات “أمنية” وحسب، بمنزلة مقدمة لحل سياسي يُطرح لاحقًا، بعد أن فقد معظم قادة هذه الجماعات استقلال قرارهم، وراحوا يتخبطون يمنة ويسرة وسط عالم لا يحمي المغفلين، ولا تحركه إستغاثات الجوعى والجرحى، ويتربص بخصومه ويخوض حروبه الاستباقية.

على وجه العموم، إن العلاقة بين العسكر والساسة في عالمنا العربي علاقة شائكة، وعلى الدوام ظلت علاقة قوة وهيمنة، بحكم الفشل في ترسيخ الدولة الدستورية، دولة القانون، وفصل السلطات، وبقائها دولة الغلبة والقهر التي يبدو المشهد الحالي قابلًا لإعادة إنتاجها، بشكل ما، على الرغم من أن الشعب السوري ثار عليها وطالب بتغييرها أو إسقاطها.

قبل الذهاب إلى أستانا، على الأطراف المشاركة أن توضح مواقفها من مسائل كثيرة، وعلى الجهات السياسية المعنية، أن تحدد ايضًا مواقفها بجلاء ودقة، خصوصًا أن بعضهم سيذهب بصفته الشخصية للقاءات هنا وهناك، بعيدًا عن المرجعيات المعتمدة، بما عليها من تحفظات، ومصدر المخاوف الجوهري هنا هو طبيعة هذه الجماعات بحكم بنيتها العسكرية- الدينية التي تجمع أسوأ استبدادين معًا، وبأسوأ مما عرفناه وعشنا في ظله نصف قرن؛ ليزدادوا خمس سنوات عجافًا.

الاتفاقات الأمنية والتفاهمات تحتاج الى مستشارين قانونيين، وخبراء في التفاوض، وساسة وطنيين مخلصين، ومن الخطر الشديد أن توكل المهمة إلى هؤلاء الذين لم يسبق لهم أن أعلنوا اعترافهم بوطنية الثورة، ولم يقبلوا بالمواثيق والاتفاقات التي أجمعت عليها قوى الثورة والمعارضة الوطنية في السنوات الست الماضية، ولا شك في أن مشاركة بعض الأطراف بهذه الطريقة يكشف تهافتها على السلطة، بوصفها سلطة ليس إلا.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]