لم تكن البداية مع دونالد ترامب، تاريخ روسيا الطويل بالخديعة المعسولة


لم يتم التأكد بعد من المزاعم العديدة في المذكرات سيئة السمعة حول علاقة ترامب بالروس، إلا أنها توافق نمطاً معيناً.

إنها لمصادفة رائعة أن يكون المسؤول عن مصائب دونالد ترامب الأخيرة، المؤلف، الذي لم يكشف عن اسمه، لسلسة “المذكرات” المشوقة لكن غير المؤكدة، حول العلاقة المزعومة بين الرئيس المنتخَب والاستخبارات الروسية ولا سيما إيواء عاهرات روسيات، من المصادفة أن يكون الرجل نفسه ضابطاً سابقاً في جهاز الاستخبارات البريطاني “M16”.
وللبريطانيين، كما يوضّح أدب الجاسوسية للحرب الباردة في القرن العشرين، طريقة معينة في التتبع السري للأسرار القذرة التي يخفيها السياسيون ذوي النفوذ، حتى وإن لم ترَ تلك الأسرار النور يوماً، وذلك عندما يُعرض بعضها (أو يُقَنَّع) في رواية ما.
وبعد عقود من تهرّب خصمه بعيد المنال منه، اكتشف “جورج سمايلي”، وهو شخصية ضابط مكافحة التجسس التي ألفها “جون لو كاريه”، الوسائل التي يستطيع من خلالها إعاقة “كارلا”، وذلك عن طريق قلب حيله ضده؛ فيقوم بابتزازه بسر يدمر حياته، وهذا تكتيك يُعرَف باسم “kompromat”، أي المساومة.
كارلا لديه ابنة مريضة عقلياً، وكان ذلك خارج نطاق الزواج مع عشيقته “التي تحمل ميولاً معادية للسوفييت”. يبقي كارلا ابنته في عزلة باسم مستعار في مصحة سويسرية مستخدماً أموال الدولة بادعائه أنها عميلة سرية تابعة له. قتل كارلا شخصين في دول أجنبية (ومن بينهما عميل بريطاني سابق يحمل رتبة عسكرية أستونية) وذلك ليبقي على سره بعيداً عن حكومته المستبدة.

لكن رجال سمايلي، الذين يعملون على إحدى الجرائم، اكتشفوا ذلك في نهاية المطاف. وبالتالي، يعرض سمايلي الخيارات لكارلا: إما أن يكشف كل هذه الأمور في موسكو، وعندها سيخسر دون أدنى شك وظيفته وستُنفى حياته وابنته إلى “منفى أبدي”، أو باستطاعته أن يأتي إلى الغرب وأن يحصل على جميع العلاوات والشروط المعتادة، ويعمل لصالح الحكومة البريطانية وبالتالي يتخلى عن الأسرار السوفييتية التي لم يخبر بها أحداً.
ويكتب لو كاريه بصوت بطل روايته: “لقد دمرته بالأسلحة التي أكرهها، ذات الأسلحة التي يستخدمها. لقد تجاوزنا حدودنا بعضنا البعض، نحن أشباه الرجال في هذه الأرض المهجورة”.
ومن السابق لأوانه أن نحدد ما إذا كان ترامب، الذي عقد مؤتمراً مؤخراً نفى من خلاله التهم الموجهة إليه في الملف السري واصفاً إياها بــ” الأخبار المفبركة”، سيجد نفسه قد طُرد خارج البيت الأبيض إلى الأرض الخالية نتيجة إقالته، إن لم تكن خيانته.
وفي حال كان ذلك، لن يكون السبب ولعه المفترض بـ”الحمامات الذهبية” والذي افترض خاطئاً أن شخصاً “قذراً” كحاله لا يمكن أن يشترك فيها.

بل على العكس، إن رجلاً أقر بأن ابنته فتاة “مثيرة”، وانتُخب رئيساً بعد أن عُثر على شريط تسجيل يقول فيه أنه يتقصد ملامسة النساء بطريقة بشعة، من الأرجح أنه سيتحمل الاشمئزاز الشعبي، بل قد يصل به الأمر إلى درجة يعرض فيها الحدث على أنه دلالة على مهارته، على الأقل مع العاملين في مجال الجنس. لن يستطيع أحد أن يعبر عن مدى انغماس ترامب في هذه الأمور بقدر شخصية الدب ” Winnie-the-Pooh” ووعاء العسل.
أما بالنسبة لما يستطيع الروس ابتزازه به، فهو استعداده المزعوم للتعاون مع الكرملين في تمويل القراصنة الذين اخترقوا مواقع عناصر الحزب الديمقراطي. والأكثر تعقيداً من ذلك، تغذية استخباراتية منتظمة لجهاز الأمن الفيدرالي، العضو الحليف لوكالة استخبارات “KGB”، حول أنشطة أعضاء حكومة القلة الروسية الذين يعيشون في الولايات المتحدة.
وقد ورد كلا الادعائين في المذكرات سيئة السمعة، ويتناسب الأخير مع الملف الشخصي لرجل جُند ليكون عميلاً لقوة أجنبيةـ وهو نموذج يصبح فيه “التعاون” مسألة ابتزاز وسيطرة.
وعلى غرار كارلا، يعد فلاديمير بوتين مستخدِماً بارعاً لأسلوب ” kompromat” لتعزيز مصالحه، وسيكون ذلك من خلال الاستمرار بأسلوبه في محاولة لتشغيل سياسي أجنبي (أو شخص طموح) مع وجود دليل على سوء سلوك ذلك السياسي مهما كانت النتائج. يمكن القول أن بوتين يدين برئاسته إلى استخدامه لهذه الأداة العريقة جداً والتي يعتمدها الجهاز الروسي.

عندما كان بوتين رئيساً لوكالة FSB الاستخباراتية نجح في إبهار ما كان يعرف حينها بـ “عائلة” يلتسن، التي كانت تضم قريب الرئيس الروسي ولكنها ليست مقتصرة عليه، وذلك بتدميره لمدعٍ عام كان يحقق في تورط ابنة الرئيس “تاتيانا دياشينكو” وزوجها “فالنتين يوماشيف” بقضايا متعلقة بالفساد، ومن بينها اختلاس أموال الجولة وتلقي الرشاوى من المتعاقدين لإنعاش الكرملين.
أما الأمر الآخر الذي حظي بتركيز المدعي العام كان “بوريس بيريزوفسكي” الشبيه بإياغو، أحد الموالين للرئيس يلتسن، الذي كان مهتماً، أكثر من أي مليونير آخر في ما كان يُعرف بـ ” semiboyarshchina ” – حكم النبلاء السبعة ، أو القلة _ بتنظيم طقوس إعادة الانتخابات شبه المدروسة عام ١٩٩٦، وعلى رأسها نشر الأكاذيب والشائعات حول خصمه الشيوعي.
وكان المدعي العام يدعى “يوري سكوراتوف”، كما كان قد تلقى دعماً من أحد خصوم يلتسن السياسيين، عمدة موسكو “يوري لوزكوف”.
في شهر مارس/ آذار عام ١٩٩٩، نُشر مقطع فيديو على قناة روسيا الحكومية يُظهر رجلاً شبيهاً بـ “سكوراتوف” إلى حد بعيد، مع عاهرتين. وفي شهر أبريل/ نيسان، علق “بوريس يلستين” أعمال سكوراتوف “خلال مدة التحقيقات الجنائية” في مقطع الفيديو.

وكان بوتين هو المسؤول عن التحقيق في مصدر الشريط، ومن بعدها جاء رئيس جهاز الأمن الفدرالي وأمر بتصوير الحدث وشراء الفتيات العاملات كذلك. على أية حال، اتهمه سكوراتوف بزرع الشريط، وذكر الصحفي “بافل شريميت” (الذي قُتِل العام الماضي في أوكرانيا) حينها أن بوتين رتب لمغادرة سكوراتوف مكتب المدعي العام دون إحداث جلبة.
وفي مؤتمر صحفي، بثه التلفزيون، كان قد عقد في أبريل ذلك العام، أكد بوتين ووزير الداخلية الروسي “سيرغي ستيباشين” أن “سكوراتوف” هو من كان في مقطع الفيديو بالفعل وأن من دفع تكاليف طقوس العربدة تلك كانوا أشخاصاً مشتبه فيهم جنائياً ويخضعون للتحقيق في مكتب سكوراتوف.
ومن الواضح أن الهدف امتثل لشروط مساوميه بتركه لعمله دون ضجة وبلا عواقب مباشرة. إلا أن ذلك لم ينجح، إذ أراد أعضاء مجلس الشيوخ الروسي مواصلة التحقيقات التي بدأها.
أما بوتين الذي أحضره بيريزوفسكي (الذي سيعيش ليندم على ذلك) إلى الكرملين، والذي تظاهر بولائه للأسرة، عُيّن رئيساً للوزراء. ليصبح بعدها خلف الرئيس يلتسن.

رابط المادة الأصلي : هنا.



صدى الشام