المصدر السري لشرور بوتين

15 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2017

15 minutes

شبَّه «هنري كيسنجر»، مؤخّرًا، «فلاديمير بوتين» بأنّه «أحد شخصيّات دوستويفسكي» الأمر الذي راقَ للرئيس الروسي على ما يبدو. ذلك غير مستَغَرَبٍ تمامًا؛ إذْ ليسَ ثمّة كاتبٍ روسيّ يُجَسّدُ المشاعر الكثيرة المتناقضة، سواءً الثقافية أو الروحية أو الميتافيزيقية، ولا زال يجري في عروق روسيا – ما بعد الاتحاد السوفياتي؛ مثل «فيودور دوستويفسكي».

تفصيلِيًّا، يمكننا القول بأنَّ الفصل الرّاهن من التاريخ الروسي ابتدأ يوم عيد الميلاد من عام 1991؛ حينَ أعلن «ميخائيل جورباتشوف» وفاةَ الاتحاد السوفياتي، لكنّه في الواقع بَدَأ فِعليًّا في العام 1999؛ وذلك مع اندلاع حرب الشيشان الثانية، وصعود نجم فلاديمير بوتين، كما أنّه لم يحظَ بأي زخمٍ أو وعيٍّ ذاتيّ حتى شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2003؛ عندما أُلقِيَ القبض على «ميخائيل خودوركوفسكي»، رئيس شركة «يوكوس» النفطية، وذلك تحت تهديد السلاح على مدرجات أحد المطارات في نوفوسيبيرسك. كانت تلك هي اللحظة التي أشارت إلى إنهاء فلاديمير بوتين لمنظومة «بوريس يلتسين» ـ الرئيس المُستَضعَفُ من قِبَلِ جماعةٍ من الأرستقراطيين الروس أو الأوليغاركيّين الباحثين عن مصالحهم ـ وكذلك إلى إنهاء الدولة التي كانت خاملةً ومنقسِمةً ومُحطّمة، وإلى الشروع في إعادة هيبة الدولة وتأسيس نظامها الجديد. منذ ذلك الوقت كان السؤال المهيمن على كافة المناقشات الجارية بشأن روسيا في الخارج هو: إلى أين يمضي بوتين بالبلاد؟ ما الذي يريده؟

حين يحاول الأمريكيون شرحَ أيّ أمرٍ يعتقدونه سيئًا في روسيا الحديثة، فإنّهم حتمًا ينحون باللائمة على الاتحاد السوفياتي، ويقولون بأنّ الروس افتقدوا الثياب اللمّاعة طويلًا، لذا فإنهم يحبّونها، أو أنَّ الروس لا يبتسمون؛ لأنّ من ينشأ في ظل الاتحاد السوفياتي لن يعرف الابتسامة أبدًا. وهكذا دواليك. ذلك يجعلنا نشعرُ بالرضى عن أنفسنا، فقد كنّا في الجانب الصحيح من التاريخ، إلاّ أنَّ ذلك غير صحيح أيضًا. الانقلاب الكبير والتغيّر الهائل الذي حصل، إنّما سبَقَ بكثير صعود الاتحاد السوفياتي وأفوله. لقد كان بطرس الأكبر في نهاية القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر، وهو الذي مثَّلَ ما يشبه قولَ بوشكين «إيجادُ نافذة» على أوروبا. فذلك السجود للغرب ـ وإعادة تنظيم الجيش، وفرض معايير سلوكية جديدة على الأرستقراطيين، ولبرَلةُ الجامعات ـ ربّما كانت جميعها إجراءات صحيحة، غيرَ أنّها كانت وحشيةً ودمويةً أيضًا، كما ولَّدَت أزمة ثقة وخلقت تساؤلاتٍ وتناقضات لم تُعهَد من قبل حول ما الذي على روسيا أن تكون عليه.

طيلَةَ القرون الثلاثة اللاحقة، حيَّرَ ذلك التساؤل السلافيين (أولئك الذين آمنوا بالخير المتأصل في روسيا القديمة) وأولئك المتغرِّبين الذين أرادوا تحويل روسيا إلى إمبراطورية أوروبية ليبرالية أقلّ انعزالًا وأكثر عِلمانية. افتقدت روسيا لهوية محددة بشكل واضح؛ إذْ كانت دومًا على الحدّ الفاصل بين ذاتِها الشرقية وتلك الغربية، في حالةٍ من التشعُّب والتشتّت، حائرةً في هويتها التي يفترَضُ أن تكون. وفي أواخر القرن التاسع عشر، وفي أعقاب اندلاع الثورات في فرنسا والنمسا وفي الإمارات الإيطالية والألمانية، وبعد صدور البيان الشيوعي لماركس، ازدادت تلك الحيرة (المعركة). تفتَّحَ وعيٌ راديكالي جُلِبَ من أوروبا، بيدَ أنّه في روسيا، كما هو الحال دائمًا، اكتسب ضَراوةً جديدة. مسخت الرغبة بالإصلاح المهذّب والتدريجي إلى عدميّةٍ عُنفيّة. لم يعُد التغيير كافيًا، أيًّا كان معناه المقصود. كان الخيار الوحيد المتبقي هو نسفُ كلّ شيء والبدء من جديد.

عبّرَ دويستوفسكي، الذي سافر إلى معظم أرجاء أوروبا، ولكنّه بقي شاكًا إزاءها، عن ازدرائه للثوريّين ولثورتهم المنشودة. وقد أمضى ستينات وسبعينات القرن الثامن عشر متوجّسًا من مواجهة روسيا المرتقبة مع نفسها. ولم تكن أعماله الأربعة الأكثر أهمية (الجريمة والعقاب، والأبله، والشياطين والأخوة كارامازوف) مُجرّدَ روايات، بل كانت تحذيرات «دويستوفيّة» بشأن ما يمكن أن يحصل إذا لم ترتدّ روسيا إلى أصولها ما قبل البطرسيّة.

رأى دويستوفسكي أنَّ روسيا ماضية في تدمير نفسها، وبدعمٍ غربي، سواء كان هذا الدعم مُعلَنًا أو مخفيًّا. يتجلّى تعبيره عن هذا التدمير الذاتي بشكلٍ واضح في الأخوة «كارامازوف»، تدور أحداث الرواية، وهي أطول روايةٍ بوليسيةٍ كُتِبَت على الإطلاق، حول مقتل فيودور بافلوفيتش كارامازوف. تُوجّهُ التهمة بجريمة القتل لأحد أبناء كارامازوف الثلاثة الشرعيين وهو «ميتيا» ويُدان بذلك، لكنّ القاتل الحقيقي هو الولد الحرام، والمختل عقليًّا لكارامازوف، ويدعى «سميردياكوف»، كما أنّ القاتل الحقيقي الذي يقف وراء سميردياكوف (المدبّر أو zakashik) هو «إيفان»، الابن الأكثر نجاحًا وغَربَنَةً لكارامازوف. لقد كان إيفان بأفكاره الغربية العصريّة هو مَن فرّقَ شمل عائلته (العائلة هي روسيا مَجازًا)، وسيكون «لويشا»، آخر من تبقى من الأبناء الشرعيين لكارامازوف، هو الذي سيعيدُ بناءها. وليس من قبيل المصادفة أنّ يكون ذلك الشخص هو لويشا، أصغر الأبناء وأكثرهم تديّنًا وإنكارًا للذات. بالنسبة للروسّ السوبورنستيين القدماء، وهم طائفة روحيّة ترى فيهم المخيّلة الروسيّة أشخاصًا حفظوا وحدة روسيا وتماسكها، فإنّ المستقبل كالماضي. تلك هي روسيا البوتينية، بعد كل تلك السنين.

ليس التيه السوفياتيّ، المنظور من خلال عائلة كارامازوف، سببًا للويلات الروسية في حقبة ما بعد-السوفيتية، لكنّه الأثر الناجم عن الكارثة نفسها التي ما زالت تُربكُ روسيا: أزمة الهوية التي تسبّب بها في الأصل المُستَغرِب بطرس. لقد أمضت روسيا حقبة التسعينات وهي تأكل نفسها: ببيع أكبر أصولها النفطية وتسليم انتخاباتها للـ«سي آي إيه»، وبالسماح للناتو بالتعدّي على حدودها، والآن، وفقط في ظلّ حُكم بوتين، فإنّ روسيا قد استعادت مُلكِيّتَها لنفسها.

إنّ الشّرخ المتزايد في ذلك المنطق هو بالطبع فلاديمير بوتين، الذي، لا يشبه بأي حال الشخصية الروائية ليوشا. وفي الحقيقة، فإنّ بوتين بالكاد أظهر إشاراتٍ تجعلنا نعتقد أنّه بذلك العمق. ومن غير المرجّح أن تكون أجندته نابعةً من قراءة متأنّيةٍ للروايات الروسية. فهو رجل عصابات ينظر لمواطنيه كما ينظر رجل العصابات إلى الناس البسطاء في منطقته بمزيج من التعاطف والازدراء. إلاّ أنّ بوتين روسيٌّ أيضًا، أي أنّه يغضب لما يغضَبُ له مواطنوه، ويشارِكُهم الحنين الذي يهيمن على الشعور الجمعيّ الروسيّ أيضًا.

لو افترضنا صحّة تشبيه كيسنجر فإننا سنبقى حائرين أيّ الشخصيّات الدويستوفية يشبه بوتين. تلك ليست النقطة بالتحديد. إنّما المسألة هي أنَّ دويستوفسكي يفصل بوضوح بين الخير والشرّ، وذلك على نحوٍ «مانَويٍّ» جليِّ. روسيا، القديمةُ تحديدًا، خَيِّرة ونقيّة – كالأطفال أو ضالّة على نحوٍ ما. أمّا الغرب فشرّير، وهو ليس خصمًا حضاريًا أو منافسًا اقتصاديًا وجيوبوليتيكيًا فحسب؛ بل إنَّ الغرب فاسد، وسامّ حين يخالط الدماء الروسية.

يعلم القائد الدويستوفي (vozhd بالروسيّة) أنَّ روسيا طيّبة والغرب ليس كذلك، كما نفترض أنّه تعلّم في الآونة الأخيرة أنَّ الطريقة الوحيدة لإبقاء الغرب بعيدًا، هي في التغلّب عليه لتسريع تفكيكه. وكلّما زاد الزعماء الغربيون، وبالأخص الأمريكيون، من كلامهم حول إعادة ضبط العلاقات مع موسكو؛ كلّما زادَ عدَمُ ثقة الزعيم الدويستوفيّ بهم. هو يمقتُهم، كما أنّ أيّ رئيسٍ روسيّ لا يفعل ذلك، يكون خائنًا أو ألعوبة. (مثالُ الأول هو جورباتشوف، ومثال الثاني هو يلتسين).

ليس هدف بوتين كسب المزيد من الأراضي؛ فلدى روسيا ما يكفي منها. بل إنّ المنتهى الذي يصبو إليه في النهاية هو زعزعة الاستقرار، والتغلّب على النظام الغربي بأسره. يبدو ذلك رائعًا للأمريكيين؛ إذ إنّنا شعبٌ لا تاريخيّ. ذلك لا يعني أننا جاهلون بالتاريخ، على الرغم من وجود قدرٍ كبيرٍ من الجهل لدينا. معنى ذلك أنَّ المفردات التي نؤسّس عليها فهمنا للعالم لا تنتمي لقاموس الماضي، كما أنه يصعب علينا أن نعرف حقًا كيف نفعل ذلك بطريقة أخرى.

روسيا، وعلى غرار معظم البلدان الأخرى، هي بلدٌ تاريخيٌ بالتأكيد، وعلى ما يبدو فإنّها تسعى لمداواة جرحٍ يعود لـ400 عام، وقد اكتشَفَت بالكثير من الضّيق أنّه من غير الممكن النظر إلى الداخل ببساطة. كان ذلك خطأُ القياصرة الذين ظنّوا أنّ بإمكانهم إبقاء الغرب خارج حدودهم، كلّفَهم خطؤهم هذا: قيام الثورة البلشفية، وستالين، والمجاعة، ومعسكرات الغولاغ، والحرب العالمية ودولةٌ فاشلةٌ إجمالًا، ونمطًا معيشيًا مُهلِكًا، واقتصادًا مُنهَكًا، وسجونًا، وضياع الهيبة والشعور بالمكانة في العالم.

لن يكرّر بوتين ذلك الخطأ. فحين قَصَفَ حلب، فإنّه على الأرجح لم يفعل ذلك بسبب «داعش» أو لأجل بشار الأسد. إنّما لأنه أراد تأكيد الهيمنة الروسية وتقويض الأمريكية. لنا أن نفترض ذلك؛ لأنّه ما مِن مصالح روسية واضحة خَدَمَها التدخل في سوريا، إلاّ أنّ الكثير من المصالح الأمريكية قد تضرّرَت. كذلك، ربّما يمكننا القول إنَّ بوتين الروسي يخلق الفوضى أينما أمكن، ومن ثمَّ يحاول أن يجني ثمارَ تلك الفوضى. (خذ مثلًا ما يسمّى بالصراعات – المجمّدة في مولدوفا وجورجيا وأوكرانيا). حين قام باختراق اللجنة الوطنية الديمقراطية – كما يُزعَم- فإنّ ذلك لم يكن بدافع الثأر الشخصيّ، كما افترضت «هيلاري كلينتون»، وحين ساعد على نشر أخبار مزيفة عن المرشّحين كما هو مزعوم، فإنّ ذلك لم يكن أولًا وأخيرًا بسبب اهتمامه بنتيجة الانتخابات، بل لأنّه أرادَ أن يشكّ عشرات الملايين من الأمريكيين في شرعية انتخاباتهم. في نهاية المطاف، لا يمكن لبوتين ضمان أن يخدم «دونالد ترامب» حقًا مصالح روسيا أكثر مما كانت هيلاري كلينتون لتفعل؛ إذ إنّ حقيقة كون ترامب شخصًا مضطّربًا يجب أن تُقلِق الكرملين، كما أنَّ اختياره لـ«تويتر»، كوسيلةٍ مُفَضّلةٍ، يجب أن ينضمّ لجملةِ مخاوفهم أيضًا. إلاّ أنَّ المُسَلَّمَ به، بطبيعة الحال، أنَّ مسألةَ فقدان الأمريكيين إيمانهم بالديمقراطية ـ وبالمؤسسات التي تدعم هذه الديمقراطية، كالإعلام مثلًاـ هي التي تخدم المصالح الروسية بعيدة المدى.

يُمثِّلُ دونالد ترامب، الذي يبدو مُتحلّلًا من أي معايير سلوكية أو نظرية شاملةٍ للعلاقات الدولية، فرصةً مذهلة لفلاديمير بوتين؛ إذ إنّه سيكون أول رئيس أمريكي صرّح بأنّه يريد علاقات أفضل مع موسكو، ويعني ذلك بشكلٍ قاطع. صحيحٌ أنّ معظم الرؤساء الأمريكيين يقولون أشياء كهذه، إلاّ أنّ هنالك دومًا تحذيرٌ ضمني (وواضح) مفاده: طالما أنَّ تحسين العلاقات يدعم المصالح الأمريكية.

إلاّ أنّه ليس ثمّة من اشتراطات واضحة في حالة ترامب. ولِمَ يجب أن يكون هنالك اشتراطات؟ فالمصالح التي لطالما دافعنا عنها، هي ليست مصالحه. فهو في موقِعٍ خارج أية حكومةٍ أمريكيةٍ تقليدية. وإذا ما كان لعلاقات روسية-أمريكيةٍ أفضل (وهي بتعريف ترامب علاقات أفضل بينه وبين ترامب) وبصرف النظر عن سطحيّتها، أن تهدّد حلفاءنا الأوروبيين الشرقيين أو أن تطيلَ من أمَد الصراع في الشرق الأوسط، أو على نحوٍ أوسع أن تقوّض المساعي الديمقراطية لأيّ من شعوب العالم؛ ذلك كلّه لن يكون مشكلةً بالنسبة لترامب؛ لأنّ تلك الأمور بمُجمَلِها لم تعُد مصالح لنا.

قد لا يكون الجمهوريّون الذين دافعوا عن ترامب، أو الذين حذّروا من مغبَّةِ تضليلنا من قِبَلِ وكالات استخباراتنا مدرِكين لمدى نرجسية ولِينِ عريكة الرئيس القادم، أو أنَّ عليهم أن يقرؤوا الكثير من الأدب الروسي.

أو لربّما سمح هؤلاء لخصوماتهم الحزبية بحجب ما يجب تعرِيَتُه أمام الجميع، في أنَّ روسيا تفعل ما كانت تحاول فعله منذ وقتٍ طويل. في القرون الماضية، اعتقدوا بأنّ لحظتهم قد سَنَحت- بطرس، كاترين، الشيوعيون، وما بعد الشيوعيين- كانوا دومًا على خطأ. لقد تخيّلوا أنّهم على وشك النجاة بأنفسهم، بيدَ أنّهم لم يفلِحوا قَطّ. ولربّما وصلوا الآن لمفترق طرقٍ كونيّ الهوى، من تصميم بوتين ومساعديه، وتحكُمُه نوازع لا تخصع لأي ضوابط بشرية.

رابط المادة الأصلي : هنا.

[sociallocker] صدى الشام
[/sociallocker]