on
حمامة مطلقة الجناحين
جيرون
فتعانقنا… وحين سمعت شهقات الرفاق وبكاءهم من خلفي لم أستطع تمالك نفسي.
الشاعر العربي القديم كان يرى حصانه صديقه، وكان يطعم الذئب الذي يعوي من شدة الجوع
بلادي الآن مأساة كونية يدفع السوريون ضريبتها عن الكون كله
بمناسبة نشر ديوانه “حمامة مطلقة الجناحين” بالإيطالية، أجرت الصحافية الإيطالية Francesca Del Vecchio لقاء مع الشاعر السوري فرج بيرقدار، ونشرته صحيفة المانيفيستو الإيطالية، يوم الخميس 12 يناير/ كانون الثاني 2017. وردًا عن سؤالها الأول: متى أدركت أن شعرك كان واجبًا عامًا وليس هواية شخصية وحسب؟ يقول فرج بكل بساطة: “كتابة الشعر في السجن لم تكن بالنسبة لي واجبًا ولا هواية بل حاجة وضرورة وآلية دفاعية لحماية توازني الشخصي”.
وكان فرج قد كتب في المقدمة: “هذا الكتاب يجمع أوراق السجن التي أعطيتها لابنتي وكان عمرها عشر سنين”، ويضيف شارحًا: “أما كتابي النثري (خيانات اللغة والصمت) الذي تحدثت فيه عن تجربة اعتقالي وغيري من المعتقلين، فكان واجبًا. كنت بين السجناء الوحيد الذي لديه تجربة كتابية أدبية، وكان واجبي أن أنقل التجربة ليقرأها من هم في الخارج. كنت أعرف قسوة أن يعيد المرء تذكُّر وتكثيف تجربة الاعتقال عبر الكتابة، كما كنت أعرف مخاطر أن يقع ما أكتبه في أيدي المسؤولين عن اعتقالي، ولكن الواجب دفعني لقبول المخاطرة. بدأت كتابة الشعر شفويًا أو على الذاكرة في الأسبوع الثاني من الاعتقال والتحقيق، وما يرافق ذلك من أساليب تعذيب وحشية ومجنونة. أما كتابي عن تجربة السجن، فقد كتبته بعد مرور قرابة 12 عامًا على اعتقالي.. كنت أخاف ألا يسعفني قلبي على البقاء حيًا، فكتبت الكتاب وهرَّبته وانتهيت من واجبي”.
وعن سؤالها الثاني حول الذاكرة وحفظ القصائد مثلما كان العرب يفعلون أيام الشعر الجاهلي، قال:
ذاكرتي مدرَّبة جيدًا منذ طفولتي المبكِّرة. السجن كان أول محطة أشعر فيها أن ذاكرتي يمكن أن تخونني أو تغدو مشوَّشة، لذلك رحت أدرِّبها يوميًا. صحيح أن بعض رفاقي ساعدوني في حفظ قصائدي عن ظهر قلب، ولكن حين نُقِلنا من سجن تدمر الصحراوي إلى سجن صيدنايا العسكري قرب دمشق، وتيسَّرت لنا الأقلام والأوراق، فقد اكتشفت أني أتذكر جميع القصائد التي كتبتُها في سجن تدمر، غير أني لم أبلغ رفاقي بالأمر، حرصًا على إشعارهم بامتناني لهم ولجهودهم ولنواياهم… الأهم في هذه التجربة هو الحس الجماعي بأهمية الكلمة وضرورة وصولها إلى الخارج مهما كان الثمن”. ويقول حول علاقته مع بقية السجناء: “تقول إحدى التجارب: حين وضعنا فئرانًا في مكان نظيف ومكيَّف وفيه ألذُّ أنواع الجبنة، ولكنه ضيِّق، فقد صارت الفئران في منتهى التوتر والعدوانية. نحن لحسن الحظ وغالبًا لم نكن كذلك. رفاقي كانوا أكبر من تجربتهم وأعلى مما أراده الطاغية. صداقات السجن، وصداقات المعاناة الكبرى بصورة عامة، تكون في العادة صداقات رائعة واستثنائية حتى مع السجناء الذين ينتمون لأحزاب مفارِقة أو متناقضة تمامًا في ما بينها. الإنسانية أولًا والانتماءات الحزبية تاليًا. ذلك في الغالب وليس دائمًا”.
أما عن أسلوب فرج الجزل وطريقته بالتعبير فيقول: “شعري في هذا الديوان الذي تُرجِم إلى الإيطالية، يمتلك صفات الشعر العربي القديم كما تشيرين. في الواقع أنا أكتب الشعر بالطريقة العربية الكلاسيكية والحديثة والحرَّة، وقد ساعدتني على ذلك دراستي الجامعية للأدب العربي، وثقافتي العامة. أمّا قصائد هذا الديوان فقد كُتِبَت في ظروف تشبه ظروف أجدادي العرب القدماء، حيث القسوة هي نفسها، والصحراء هي نفسها، واللعنات والقداسات هي نفسها. قسوة عالم الإنسان يمكن أن تدفعه لعقد مقارنات مع عالم الحيوان، لما تعانيه تلك المخلوقات ولا تستطيع الكلام عنه. الشاعر العربي القديم كان أكثر توحُّدًا مع محيطه. كان يرى حصانه صديقه وكان يتعاطف أو يسعى لإطعام الذئب الذي يعوي من شدة الجوع”.
أما جوابه عن تكرار مجاز الصهيل في ديوانه باعتباره، صرخة الشاعر، الإنسان، فقد أجاب فرج بأن بقوله: صوت صهيل الخيل في تراثنا مرتبط بالفروسية والشهامة والقوَّة ونداء الحب والحرب وزفير المعاناة إلخ.. كنتُ أقوِّي نفسي بصهيل الخيل. كنت أتخيَّل نفسي حصانًا، رغم قناعتي لاحقًا أننا كنا أقوى من الخيول. وقد اشتققتُ تنويعات كثيرة على صهيل الخيول من مثل الحمحمات والوهوهات، ولا أدري كيف تمكن ترجمة هذه المفردات إلى الإيطالية”.
وكان فرج قد اعتقل مرتين: “… الأولى بسبب مجلة أدبية تنشر الشعر والقصة القصيرة فقط، وكنت أحد محرِّريها. نشرتُ في تلك المجلة قصيدة تقارن بين نهري النيل في مصر وبردى في دمشق، فلم يرق للسلطات أن أقارن النيل أيام حكم أنور السادات في مصر بالنظام السوري. الرئيس المصري أنور السادات أقام اتفاقًا أو تسوية مع إسرائيل، وظل نظام الأسد ولا يزال يدَّعي مقاومة إسرائيل. الفكرة الأساسية في القصيدة هي أن نهر بردى يتنفَّس من رئتي النيل، فاغتاظت مخابرات الأسد من هذه المقاربة أو الفضيحة، وكانت نتيجة غيظها اعتقالًا لهذا الشاعر الذي هو أنا”.
وعندما سألته الصحافية عن السجن والذكرى الأكثر اكتئابًا في تلك السنوات، قال: “كل الذكريات في السجن كئيبة ومُكئِبة، ولكن حين نُقِلت من سجن تدمر الصحراوي الذي فيه أخي الأكبر، ولم أستطع رؤيته هناك، إلى سجن صيدنايا قرب دمشق، كنت أعرف أن أخي الأصغر معتقل فيه أيضا، فطلبتُ مقابلته، ووافقت إدارة السجن على لقائنا. أحضروا أخي إلى مكان قريب من مهجعنا، وطلبوني فتعانقنا… وحين سمعت شهقات الرفاق وبكاءهم من خلفي لم أستطع تمالك نفسي. تلك كانت كآبة كبرى. يصعب فهمها إذا لم أشِرْ إلى أن ذلك كان أول لقاء لأحد من مجموعتنا بأحد من أسرته، بعد مرور ست سنوات كنا فيها مقطوعين تمامًا عن العالم الخارجي. هذا على الصعيد الشخصي؛ أما على الصعيد العام فإن الذكريات الأكثر إيلامًا هي تلك المتعلِّقة بسجناء كانوا يُجبَرون، تحت وطأة التعذيب، على تعذيب سجناء من زملائهم. بالطبع لا يمكن لي أن أفعلها حتى لو قتلوني، ولكن لكل سجين عتبة من تحمُّل الألم ومن الوعي والثقافة والثقة بنبل الأهداف التي اعتُقِل من أجلها”.
وفي سؤال عن قصائده إن كان يعتبرها “أدب السجون”، يجيب فرج: “معظم ما كتبتُ هو أدب سجون أو منفى.. لم يكن الأمر إراديًا. كان موجودًا قبل السجن وخلاله وبعده. ليس في حياة السوريين، منذ خمسين سنة، غير السجن والمنفى. لي قبل السجن مجموعتان شعريتان تتحدثان عن السجن والمنفى. وسوريا هي كذلك منذ انقلاب الأسد الأب سنة 1970، وما زال وريثه على الديدن نفسه”.
أما لماذا اختار الشعر كوسيلة للتعبير الفني؟ فيقول: “لأنني في الأصل شاعر. ولو لم أكن كذلك لحاولت أن أكون. الشعر هو طائر الحرية الأجمل، هو ما ليس قابلًا للأسر. ولكن على الرغم من ذلك فإن أوَّل كتاب نثري كتبته في حياتي داخل السجن، كان عن تجربة السجن، وقد نُشِر أولًا بالسويدية ثم بالعربية، ثم تُرجم إلى الإيطالية وجرى إخراجه كمسرحية، إلا أن الكتاب لم يُنشَر بعد بالإيطالية”.
وعن سؤال حول الشفوية وإن كان حفظ الشعر وسيلة للدفاع عنه؛ حيث يصبح الصمت طريقة لحماية الشاعر أيضًا من السجانين؟ قال فرج: “نعم كان الأمر كذلك، غير أنني لم أتأخَّر ولم يتأخَّر رفاقي عن حمل المسؤولية. كنت أريد أن يقرأ السوريون قصائدي، ولحسن الحظ الآن فأن شعوبًا كثيرة تقرأ تلك القصائد. كانت تجربة فيها الكثير من المضاضة والألم والغرابة. أنا نفسي حتى الآن لا أستطيع ابتلاع فكرة حرمان كاتب من الأوراق والأقلام -مدة ست سنوات- في أواخر القرن العشرين.
وفي جواب على سؤال غريب حول نشر قصائده ودور ابنته في ذلك، يقول فرج: “التزمت ابنتي بما أوصيتها به، بعدم نشر قصائدي إلا في حال موتي داخل السجن، ولكن بعض الرفاق حصلوا على قصائدي وصوَّروها ثمَّ نشروها، وأنا ممتنٌّ لهم رغم أنهم فعلوا ذلك خارج إرادتي”.
ثم ينتقل الحوار للحديث عن غربة فرج في السويد وأسبابها العميقة، وكيف يرى بلاده التي تعيش اليوم ظروفًا مأساوية؟ فيقول: “لا أتنكَّر لشعبنا السوري الذي للأسف أن معظم العالم يتنكَّر له. لستُ عصبويًا سوريًا، وأريد للوقائع أن تثبتَ أني لست كذلك. في السنوات الأخيرة من الشواهد والشهود ما يجعل العالم أخرس. الشعب السوري الآن ومنذ قرابة ست سنوات، يعيش قصة “موت معلن”، إذا استعرنا عنوان إحدى روايات ماركيز. بلادي الآن مأساة كونية يدفع الشعب السوري ضريبتها عن الكون كله، أعني الكون الأعمى أو المتعامي. لا بدَّ أن تتذكّر الحدودُ والغابات والبحار مأساةَ السوريين، ولا بدَّ للمجتمع البشريّ من أن يتذكَّرها وينصفها ولو متأخِّرًا”.
ترجم اللقاء إلى العربية إيلينا كيتي Elena Chiti
المصدر