أتعرف أحدًا نجا من المجزرة؟

16 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2017

6 minutes

ميسون جميل شقير

يا أيها السوري! أنصحك أولا ألا تكمل قراءتي؛ حرصًا مني على سلامة موتك، وعلى انتصار الحياة فيه، وخوفًا على مرآتك الكاذبة من التصدع، ومن تكسر وجهك فيها لآلاف القطع المشوهة.

يا أيها السوري!  لا تكمل قراءتي؛ كي لا تدير العواطف والرصاصات إلى جهة القلب دفعة واحدة. وكي لا تكمل انتحارك بي.

قد تكون متعبًا قليلًا، بعد رقصك في احتفال انتصار الطائرات على أسطح البيوت والأحلام؛ انتصار البراميل على الأجساد، ظنًا منك أنه انتصار لتميزك الحضاري على الرايات السوداء، ناسيًا ومتناسيًا -من شدة رعبك- أن الأسود لم يكن يومًا فينا، ولا في شرايين أبناء عمك، وأن قاتلك هو من صنعه؛ كي يقتل فيك قوس قزح، وأن لوم الدم واحد، لذا فقد تعود لبيتك، دون أن تريد ذلك، تنزل دماء صور المجزرة على تلفزيونك مرغمًا، لكن الأزرق في دمك يطغى على دمك ويقول لك: نحن المنتصرين الناجين، وهم الخاسرون الذين يستحقون المجزرة.

وقد تكون ذاك الذي كان يرقص في حلب الغربية بعيونٍ فارغةٍ لم تعد تتقن حتى الفرح المعلب، ترقص كالمجنون، الخائف، الشاكر، الهارب، الراكض أمام تلك المجزرة.

أو أنك لست من الراقصين المهللين، لكنك مقتنع -تمامًا- أن كل ما حصل مند أكثر من خمس سنواتٍ هو مؤامرة من الكواكب الأخرى، وأن من خرج للمظاهرات السلمية الأولى هو متعاملٌ مع سكان المريخ الأشرار، لذا فأنت تشاهد صور حلب وتبتسم.

لم أزل أنصحك ألا تكمل قراءتي كي تكمل انتصارك القاتل وتستريح.

يا أيها السوري الذي قد كان إنسانًا بسيطًا، لم يكن له يومًا أي رأي في أي شيء غير أسماء أولاده الثلاثة الباقين، بسيطًا يشكر العذراء على نجاتهم، ويقرر أن يقدم لها قداسًا في الأسبوع المقبل بعد المجزرة.

أو أنك لم تزل في بيتك في إحدى المدن التي لم يحن وقتها بعد كي تأخذ حصتها من الخراب الذي يعمّر فينا هذا الحزن، لكن أخاك المعتقل منذ سنة كاملة، لأنه سمح لصوته أن يخرج يومًا من فمه، لم يزل يطرق باب ذاكرتك كل ليل، ويدخل الآن كاملًا إلى دمك مع صور المجزرة.

ربما أنت نازحٌ من نازحي الداخل الذين تملأ خزائنهم مؤن كاملة من الذل والبرد والجوع، ستصرخ من داخل الصور وتقول للخارجين منها: “أعرف كم ستمر عليكم شتاءات طويلة”، لكنك تتلمس جسد ابنتك الوحيدة، وتحمد الله، فقد نجوت من المجزرة.

أو أنك الآن في احدى دول الجوار الجغرافي التي كانت أبعد من كل أصقاع الأرض، تقرأ الجريدة في بيتك الذي قَرُب انتهاء عقد إيجاره، بعد يوم عمل طويل، حوّلك من مدرس في تلك المدرسة البعيدة إلى نادل في مطعم يزوره العرب، تدلل نفسك ببعض الشاي، ووقتٍ قصيرٍ مع الفيس بوك، وحين تخرج المجزرة من الصفحات، تأخذ نفسًا عميقًا وتتفقد أولادك حولك وتشكر نفسك لأنك خرجت بهم على قيد الأمل.

وربما أنت في الزعتري تزيح الوحل عن خيمتك وتراكمه في دمك، تصرخ زوجتك: “يا إلهي” وهي تشاهد صور المجزرة في بلدك، لكنك تقول لها: “هل رأيت!! الحمد لله أننا نجونا، كفي عن التأفف واللوم يا امرأة، وأزيحي معي كل هذا الوحل”.

وربما تقرأ الآن هذا المقال، وأنت هناك تتحسس تلك الهوية الجديدة المكتوبة بلغة غريبة والقابعة في محفظتك، تجلس في قهوة مطلة على شارع لا يملك ذاكرةً لقدميك، في بلاد تثلج كل يوم في قلبك وتهبك وحشتها كاملة، هناك تفتح جوالك فتسيل منه صور المجزرة، ويغطي الدم الخارج من جوالك بياض الثلج، وأنت تحاول مسح الدم بأكمامك مسرعًا كي لا يراه أحد، تقرأ المقال وتهمس في نفسك راضيًا بعض الشيء: “على الرغم من كل هذه الوحشة التي سأكمل حياتي بها، فأنا قد نجوت”.

لكنك، يا أيها السوري، مهما كنت، وأينما كنت، حين ستذهب في آخر الليل إلى مخدتك، وتضع يدك على صدرك علك تستطيع النوم، فأنت في كل ليلة بعد المجزرة، سوف تجد حفرة كبيرة في صدرك هذا، وستحاول أن تنفي ذلك، وأن تتجاهلها، لكنك ستعود وتتفقد صدرك، ويدهشك جدًا أن أصابعك ستغرق فيها أكثر، وستكبر دهشتك، ولن تصدق نفسك حين تخرج يدك من الخلف، وحين ستكتشف أنك مثقوب بالكامل، وأنك كنت تستر هذه الحفرة بالهروب وبالامتنان لنفسك؛ لأنك سواء مضيت أم بقيت، صمت أو غنيت، لكنك كنت تسترها بقميص نجاتك المالح المثقوب. الآن.. لا يمكن لأصابعك التي خرجت من ظهرك أن تخدعك، وهذا الوحش الذي ربيته جيدًا فيك وأطعمته قلبك وعينيك لا يمكن أن يخدعك، والآن ستعرف أيها السوري الأول، أني لم أكن أكتب هذا المقال، وأنك لم تكن تقرأه! الآن ستقول لك تلك الحفرة التي في قلبك أننا مجرد جثتين متجاورتين في اتجاه ميل رؤوسنا بعد الموت، ستكتشف أنت وضوء القمر الناجي الوحيد، أني طوال هذا المقال كنت تلك السورية المرمية بكل اتجاهات الرصاص، وأني كنت –فحسب- أهمس لك بكلماتي، وأسالك بصوت خافت يليق بالأموات، أسألك فحسب:

أتعرف أحدًا قد نجا من المجزرة؟

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]