المخاطر المحدقة بالاستثناء التونسي
16 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2017
عبد الله تركماني
نجحت تونس في تجاوز التداعيات السلبية المباشرة لثورتها في 14 كانون الثاني/ يناير 2011، ما جعلها مثالًا لمسار ديمقراطي، يشق طريقه في عالم عربي تسوده الفوضى والتطرف، ولكن ثمة مخاطر محدقة بهذا الاستثناء التونسي.
لقد بات مكسب حرية التعبير واقعًا معاشًا في تونس، وأصبح بموجبه لا أحد فوق النقد. وكان للمجتمع المدني، نتيجة للاستقلالية والصدقية اللتين اكتسبهما في أثناء الصراع ضد الديكتاتورية، دور مهم في ضمان ديمومة هذا المكسب. فللمساعدة على توطيد مكتسبات الثورة جرى تأسيس ” لجنة الحقيقة والكرامة “، على غرار لجنة ما بعد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، التي تبحث عن الحقائق حول انتهاكات حقوق الإنسان منذ استقلال تونس، خاصة منذ انقلاب زين العابدين بن علي في 7 تشرين الثاني/نوفمبر 1987، باعتبارها إحدى أدوات العدالة الانتقالية لطي صفحة الماضي والانطلاق إلى المستقبل. وقد تابعت الشعوب العربية جلسات الاستماع العلنية لضحايا الاستبداد على مدى عدة جلسات في أواخر السنة الماضية.
كما لا بدّ من تأكيد أهمية التجربة التونسية التي نجحت في تنظيم انتخابات نزيهة لانتخاب أعضاء المجلس التأسيسي عام 2011، ثم تدوين دستور جديد وفاقي وحديث ومدني، وتنظيم انتخابات حرة، تشريعية ورئاسية عام 2014، للخروج من المرحلة الانتقالية، والدخول بصفة دائمة في عهد الجمهورية الثانية. وتظل التجربة الانتخابية التونسية رائدة في ظل محيط عربي مضطرب، وانسداد أفق ثورات عربية عجزت عن تصريف أزماتها سلميًا، وتحوّلها إلى مسارات عنيفة. إذ شكلت لحظة تاريخية فارقة في صناعة ثقافة انتخابية، بمعايير عالمية، تستند إلى الشفافية وقواعد قانونية عادلة وهيئات مشرفة ذات استقلالية، تمنح الفرصة للجميع، وعلى قدم المساواة، من أجل المساهمة في بناء المستقبل الديمقراطي لتونس، بعيدًا عن منطق الإلغاء، أو روح الإقصاء والتشفّي. إنها تجربة تستحق المتابعة، بوصفها درسًا فعليًا، يثبت قدرة الشعوب العربية على حل المشكل السياسي، ضمن إطار من التعايش الوطني والحوار السياسي الراقي، بعيدًا عن العنف والفوضى.
لكن تحتاج تونس إلى رؤية استشرافية واضحة ومشروع مجتمعي واضح، لا تشوبه ملابسات تحالفات سياسية أساسها الوصول إلى السلطة، دون تعريف موضوعي لتحديات الوضع الراهن. كما تحتاج إلى الالتزام بقيم الجهد والمثابرة وإعلاء المصالح العامة وتفعيل قيم التضامن. فأمام تونس شوط طويل لتوفير الأمل الاقتصادي لشبابها العاطلين عن العمل، كما أنّ هناك شيئًا يتحرك ويكبر مع تنامي خطر الجماعات الإرهابية.
ففي ظل الانفلات الأمني الذي يحيط بتونس، في جوارها الليبي الشرقي والجنوبي، وما أفرزه من أوضاع ملائمة لاحتضان عدد من التنظيمات الإرهابية وتداعيات كل ذلك على تونس واستقرارها، فإنّ التحدي الأمني وتفشّي ظاهرة الإرهاب من أولويات تونس. كما أنّ معالجة الأوضاع الاجتماعية المتردية، بعد تدهور أحوال المعيشة في الجهات الداخلية وتراجع القدرة الشرائية لعديد من الفئات الاجتماعية، تعدّ من الأولويات الواجبة.
أمّا في شأن التوازنات الاقتصادية والمالية الكبرى، فثمة انخرام واضح لهذه التوازنات. وفاقم من هذا الانخرام تعطّل الاستثمار، بمكوناته الداخلية والخارجية، مترجمًا بذلك قلق أرباب الأعمال من ضبابية المشهد وغياب خريطة طريق سياسية وأمنية واضحة تجعل المستثمر يقبل المخاطرة، ويراهن على المستقبل. ولعل المؤتمر الدولي للاستثمار، الذي عُقد في تونس في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، والوعود الدولية التي رافقته، يساعد في الخروج من عنق الزجاجة.
وفي هذا السياق، يجب أن يكون منوال التنمية الجديد مدمجًا طبقًا لآلية لا مركزية، لا يترك أي مواطن على قارعة الطريق. وحتى تكون التنمية ناجعة يجب أن تسبقها اللامركزية، أي: أن تحظى الجهات بالإمكانيات المادية والبشرية الكفيلة بتحمل المسؤوليات الجديدة المناطة بعهدتها وآلية القروض الصغرى والمتوسطة التي يمكن أن تستجيب لحاجات كبرى ومطالب مهمة، وهي من الآليات التي ستمكّن من بعث كثير من مواطن الشغل. ومن أهم الآليات التي تسهم في إرساء العدل الاجتماعي هي الجباية التي تمثل واجبًا وطنيًا يجب أن يلتزم به الجميع، طبقًا لمنظومة جبائية عادلة.
وستفرض الإصلاحات والتدابير المتعلقة بالقطاعات المصرفية والسياحية والفلاحية نفسها أيضًا على البرلمان والحكومة، إذ هما مطالبان بإعادة الانتعاش للسياحة التونسية، التي كانت لسنوات طوال المصدر الأساس في دعم الاقتصاد التونسي، خصوصًا أنّ تونس ليست بلدًا ريعيًا، ولا تعوّل سوى جزئيًا على الزراعة. كما يجب على المنوال التنموي الجديد أن يكون متفتحًا على العالم، وأن يستلهم من التجارب العالمية أفضل ما أنتجت، وأن يتبنى أرقى المواصفات الفنية، وأن يعتمد التقييم المستقل لكل المؤسسات والأنظمة، طبقًا لمعايير اقتصاد ومجتمع المعرفة.
إنّ تقدم تونس الملحوظ في ربيعها السياسي، مقارنة بدول “الربيع العربي” الأخرى، يجب ألا يغفل عن أنها باتت في أصعب اختبار، وهو العبور من مأزق الاقتصاد. فهل ستستفيد التجربة الوليدة من التقدم والاستقرار السياسي؛ فينعكس بالإيجاب على هذا الملف؟ أم سيعرقل الاقتصاد التجربة الديمقراطية؟
[sociallocker] [/sociallocker]