جمال عبد الناصر وعصمت سيف الدولة: لا “ناصريون” ولا “أنصار”


حبيب عيسى

(1)

في كل عام  عندما يقترب يوم 15 كانون الثاني/ يناير، ذكرى ميلاد جمال عبد الناصر، تذهب بي الذاكرة إلى يوم 30 آذار/ مارس، ذكرى غياب عصمت سيف الدولة، فتفتح الذاكرة ملف الذكريات، أغوص فيها، فتأخذني بعيدًا عن البحث في تفسير الرابط بين الميلاد والغياب، وكنت في مثل هذه اللحظة من كل عام أحسم أمري؛ فأقرر إحياء الملائمة وحيدًا، بعيدًا عن ثرثرة كثير من “الناصريين”، وعن نكوص عدد من “الأنصار”، لكن غالبًا ما كنت في اللحظة الأخيرة من كل مناسبة أخترق العزلة؛ كي ألتمس العون من الجيل العربي الجديد، فأخاطبه مستنجدًا به؛ كي يُسقط عن كاهله عباءة جيلنا وفشلنا وهزائمنا وثرثرتنا وصراعاتنا الدنكشوتية، لعل هذا الجيل الجميل الرائع يعوّض قصورنا، فيتقدم لإنقاذ الأمة من المحنة التي طالت أكثر مما ينبغي، عن طريق نضال ممنهج وجاد يستنهض ما بقي من حياء في جيلنا الهرم فنغادر ثرثرة الصالونات، وتصنيم الرموز، وحفظ النصوص، لنلتحق بهذا الجيل العربي الرائع، ولو على عكاكيزنا في المواجهة الملحمية لمشكلات الواقع، وإعادة التواصل مع الحاضنة الاجتماعية التي انفضّت عن احتضان مشروع نهضوي عربي لم تبخل عليه حتى بالأرواح، انفضّت عنه بعد أن بات رموزه في حالة عجز شبه تام عن تقديم حلول ذات صدقية للخروج من المحنة، يتبارون في البكاء على الأطلال، وكيل الشتائم للرجعية والإمبريالية والصهيونية، وكأن على تلك القوى المعادية لمشروع نهضة الأمة أن تكف عن عدوانها، وأن تفرش الطريق إلى النهوض العربي بالزهور والرياحين.

(2)

تسع وتسعون عامًا على ميلاد جمال عبد الناصر، خمس وستون عامًا على ثورته، سبع وأربعون عامًا على غيابه، وحال الأمة كما هو الآن، صدقوني أنني لم أجد العبارة الملائمة لتوصيف حالها الراهن، أليس من حق الأمة أن تسأل الفصائل التي رفعت رايات النهوض والتحرر والحرية والسيادة والتقدم والوحدة لماذا حصل ما حصل؟ وعلى سبيل التخصيص ألا يقتضي ما حصل لهذه الأمة أن يسأل “الناصريون” أنفسهم: أين هم من الراية التي رفعها جمال عبد الناصر، وبماذا هم “ناصريون”؟، ولماذا مازالوا يتصارعون على هذه الصفة “ناصري” فيدعيها بعضهم لينفيها عن الآخر؟

إن السمة الأساسية لتجربة جمال عبد الناصر، أنه انتقل بانقلاب 1952 العسكري من مجرد انقلاب عسكري إلى “ثورة” في السياق التاريخي لمشروع التحرر، والنهوض، والتنوير العربي. وفي هذا السياق الشامل للنهوض، والتنوير، أصاب وأخطأ، انتصر وانهزم، لكنه لم يرتد، ولم يتراجع، على الرغم من الصعاب، ويصدق فيه قول أحد أجدادنا العظام: “ليس من طلب الحق فأخطأه، كمن سعى إلى الباطل فأدركه”. لقد حاول  تطويع أدوات، وأجهزة الضرورة الإقليمية، لتحقيق الأهداف النبيلة القومية التقدمية للأمة العربية، لقد كان جمال عبد الناصر منذ اليوم الأول للثورة؛ وحتى آخر يوم في حياته محكومًا بأدوات، وأجهزة، ووسائل الضرورة التي لم يخترها، وإنما كانت الوحيدة المتاحة، إننا، هنا، لسنا في وارد التبرير، وإنما في محاولة لتوصيف الحالة التي كانت راهنة صباح 23 تموز/ يوليو 1952، فالأدوات والوسائل التي كانت تحت تصرفه، تتيح له تنفيذ الانقلاب على الملك عن طريق “الضباط الأحرار”، لكن تبّين في ما بعد أن تلك الأدوات والوسائل، لا يمكن أن تكون الحامل لمشروع التحرر، والنهوض العربي الذي حمله جمال عبد الناصر، بل، ربما ستُستعمل في مواجهته، فقد تبيّن بما لا يدع مجالًا للشك أن الأغلبية العظمى من أفراد تنظيم “الضباط الأحرار” لم يكن لها علاقة إيجابية بمشروع التحرر القومي العربي النهضوي، لذلك؛ أدرك ضرورة تنظيم الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج لحسم المعركة، فقال: “إن القومية العربية ليست فقط حركة سياسية، إنما هي أيضًا فلسفة اجتماعية.. هي ضرورة استراتيجية، وكما هي شعارات، لا بد أن تكون أيضًا، تخطيطًا اجتماعيًا، وكما هي حلمًا، لا بد من أن تُترجم إلى مستوى معيشة لائق لجميع العرب، ذلك أنه لا كرامة لجائع، ولا قوة لمريض، ولا طمأنينة لمن لا بيت له، ولا مقاومة، ولا صمود، لمن لا يطمئن إلى غده، ولمن لا يشعر أن حوله مجتمعًا يكفله، ويرعاه، لا يسلبه حقه، ولا يستغله.. ومن ثم لا يهدد حريته”.

وقال: “لقد كان الكفاح من أجل الوحدة، هو نفسه الكفاح من أجل الحياة، ولقد كان التلازم بين القوة، والوحدة أبرز معالم تاريخ أمتنا. فما من مرة تحققت الوحدة، إلا وتبعتها القوة.. وليس محض صدفة أن إشاعة الفرقة، وإقامة الحدود، والحواجز، كانتا أول ما يفعله كل من يريد أن يتمكن من الأمة العربية، ويسيطر عليها..)، وقال، وهو يدعو لبناء التنظيم القومي: “أنا، لن أستطيع بأي حال أن أعمل الحركة العربية الواحدة.. فإذا أنا حاولت أن أعمل الحركة العربية الواحدة معنى هذا أن هذه الحركة ستولد ميتة، لازم أن تكون الحركة العربية الواحدة نتيجة العمل النضالي، والكفاح في كل بلد عربي”، ذلك كان نداء جمال عبد الناصر في حياته، وتلك كانت وصيته في آخر أيامه قبل الرحيل الحزين، حيث وقف ليقول بوضوح لا لبس فيه: “القدس قبل سيناء، والجولان قبل سيناء، والضفة الغربية قبل سيناء.. “، قال كلماته تلك، ومضى…!!

كان مصطلح “الناصرية” قد ظهر لأول مرة في الإقليم الشمالي، بُعيد فصله عن الجمهورية العربية المتحدة، حيث جرى إطلاقه على الذين رفضوا الانفصال، ثم عُمم  مُطهّرَا من رجس الأجهزة الإقليمية في مصر، التي انقلبت عليه فور غياب ناصر، وانتقلت إلى صفوف الزمر الإقليمية المعادية للمشروع التحرري في الوطن العربي، لكن تلك “الناصرية” تشرذمت إلى “ناصريات” وتاهت في متاهة الخلط بين الولاء لنظام الضرورة السياسي الذي اعتمده جمال عبد الناصر معلى الرغم منا في مصر، وبين الأهداف الاستراتيجية التي منحها حياته، حيث كان ذلك النظام الشمولي وبالًا وعارًا على المشروع التحرري، استنسخه بعد ذلك طغاة كثيرون بين المحيط والخليج، لاحتواء مشروع التحرر والحرية والتقدم في الوطن العربي والإجهاز عليه، لذلك تحولت المجموعات “الناصرية” ، والشلل التي حملت أسمه، من أن تكون الحامل لمشروع  حل مشكلة البناء المؤسساتي لمشروع النهوض والتنوير العربي إلى مشكلة إضافية، لقد ظلت تلك المجموعات “الناصرية” قاصرة عن أن تكون الحامل لمشروع ناصر حيًا، وهي  للأسف الشديد، لا تزال أصغر من أن تغطيّ المسافات التي يفرشها ظله، غائبًا.

إن جمال عبد الناصر، لم يطلق نداء الدعوة، للحركة العربية الواحدة، إلا بعد أن جرّب وخبر واختبر كل الوسائل الإقليمية الممكنة، وعندما سألـــه الوزير، والأديب الفرنسي “بنوا ميشان” عما إذا كان يتوقـــع انهيار الحــــركـــة القوميـــة العــربية، فيما لو توفـــي فجأة، فقال: “لا… إن القوميــة العربية هي التي خلقتني. لست أنـا الذي حركتهّــا، بـــــل هي التي حملتنـــي. إنها قــوة هائلــة، ولست أنـــا إلا أداتهـــا المنــفذة، ولو لم أكـــن موجـــودًا لأوجــدت غيري، واحدًا، عشــــــــرة، آلافـــًا آخرين ليحّلوا، محلـــي. إن القومية العربية لا يجســـّـدها رجـــل واحـــد، أو مجمـــوعـــة من الرجــال. إنها لا تتوقف على جمال عبد الناصر، ولا على الذين يعملون معـــــه، إنها كامنة في ملايين العرب الذين يحمل كـــل منهم قبـــسًا من شعـــلة القوميـــة، إنها تيــــــار لا يقـــاوم، ولا تستطيع أي قـــــوة في العالم تحطيمـــّها طالمــــــا بقــــيت محتفظــــــــة بـثـقـتـها في ذاتــــــــهـا”، هكذا حدّد جمال عبد الناصر أن  البديــل عنـــــه كأداة منــّـفذة للحركـــة القومية العربية مـــتاح في ملايين العرب القوميين التقدميين الذين سيقيمون (التنظيم القومي): “لأن الجموع التي جاءت أشياعًا متفرقة، وفلولًا متناثرة كانت تعطل الزحف المُقدس إلى الهدف الكبير”، كما قال، ثم، وكأنه يكتب وصيته قبل الغياب الحزين، قدّم قراءة نقدية للتجربة في (بيان 30 مارس)، وخلص إلى ضرورة الانتقال إلى المؤسسات الديموقراطية لكن ذلك كان مرهونًا بإزالة آثار العدوان الصهيوني.

(3)

بالتزامن مع الفترة التي كان فيها جمال عبد الناصر يُعّد تنظيم “الضباط الأحرار” لإسقاط النظام الملكي، كان عصمت سيف الدولة، ومن خلال “الحزب الوطني” في مصر، حزب عرابي، ومصطفى كامل، يجهّز “كتيبة محمد فريد” للعمل الفدائي، ويتجه بها إلى قناة السويس لقتال قوات الاحتلال الإنكليزي، ويحمل معه إلى جانب السلاح مكتبة ضخمة للتزود بالمعرفة حتى في خنادق القتال، فيكتشف الأبعاد القومية العربية لمعركة التحرير والتقدم في مصر، فشكل العمق المدني والفلسفي والفكري للحلم العربي، لقد أدرك مبكرًا ضرورة بناء التنظيم القومي التقدمي كحامل وحيد لهذا الحلم، وما يتطلب ذلك من أساس منهجي، ومن ثم نظري ليقوم البناء التنظيمي شامخًا قادرًا على إنجاز المهام الصعبة والشديدة التعقيد، هكذا بدأ بالتأسيس من خلال منهج “جدل الإنسان” ثم “نظرية الثورة العربية”، ثم “بيان طارق” الذي تضمن بناء التنظيم القومي على مرحلتين: مرحلة إعدادية “أنصار الطليعة العربية” تؤدي إلى “الطليعة العربية”. ذلك أن “أنصار الطليعة العربية”، هم، أنصارًا لبناء تنظيم “الطليعة العربية”، وليس، هم، بحد ذاتهم تنظيم، وكان عصمت سيف الدولة يرفض تحويل “الأنصار” إلى تنظيم، ويرفض قيادة أو تزّعم، أو توجيّه “الأنصار” لتحقيق غاياتهم، ذلك أن رأيه كان أن عليهم، هم، أن يتدبرّوا أمرهم بدون زعيم، وبدون قائد، وبدون وصاية من أحد… نلاحظ هنا وحدة الموقف من بناء التنظيم القومي، فكما رفض جمال عبد الناصر أن يكون هو باني “الحركة العربية الواحدة” رفض عصمت سيف الدولة، أن يكون هو باني “الطليعة العربية” فيقول: “إن الجوهر الحقيقي المفيد، لدعوة “أنصار الطليعة العربية” هو كونها أسلوب ديمقراطي لتحقيق غاية في المستقبل. وهذه الغاية هي أن يقوم في الوطن العربي تنظيم قومي تقدمي، يقود نضال الشعب العربي إلى الوحدة الاشتراكية الديموقراطية”. ويضيف: “أعتقد، أن كل من يقف مع دعوة التنظيم القومي، كهدف مستقبلي هو من (أنصار الطليعة العربية)، و(التنظيم القومي)، سواء أسمى نفسه كذلك، أو حمل اسمًا آخر، أو لم يحمل أسمًا بالمرة. وسواء اتخذ هذا الموقف نتيجة اطلاعه على “بيان طارق”، أو نتيجة وعيه الذاتي بضرورة أن يقوم تنظيم قومي، بشكل ديموقراطي من القاعدة إلى القمة”. ويقول: “أرجو أن تكونوا على يقين، أني لا أسمح لأحد في الدنيا، أن يستجرّني إلى موقع الزعامة الفكرية، أو الحركية. أو أن يجعلني قميصًا لزعامته المحلية.. إني أعتقد، أن التطلع للزعامة، مرض عضال يمنع صاحبه أن يكون قوميًا مهما أحسن الحديث في ذلك. أكثر من هذا، فهو يشّكل بذرة خطيرة قابلة للفتك، بالتنظيم القومي.. حتى تحت شعار الرغبة في تعجيل قيامه، بعيدًا عن شروطه، وقواعده الحقيقية وأنا قومي، لحمًا، ودمًا، وفكرًا، ووجدانًا، ولن أخون قوميتي، أو أسيء لها قط”.

(4)

هكذا، فإن المسألة لا تتعلق بسيرة ذاتية، ولا بترف فكري، ولا بالمباهاة بإنتاج فلسفي منهجي، وإنما يتعلق الأمر كله، بأمة عربية ممنوع عليها أن تتطور، ممنوع عليها أن تعيش بما تملك، ممنوع عليها أن تعبّر عن وجودها، ممنوع عليها أن تشهر هويتها، ممنوع عليها أن تقرر مصيرها، ممنوع عليها أن تسخرّ طاقاتها وثرواتها وإمكانياتها البشرية والمادية لمشروعات التطور والعمران في وطنها، بينما يتم ضخها للخارج خدمة لمصالح عصابات الهيمنة الدولية، ممنوع عليها ذلك كله.. فإن قلتم إن هذا المنع جار بقرار دولي، فهو صحيح، وإن قلتم أنه جار بتبعية حكام طغاة أعمت بصيرتهم السلطة والنفوذ، فباتوا خدمًا لأجندات خارجية ووحوشًا ضارية تفتك بالمجتمع العربي، وتمزق نسيجه وتنتهك الحقوق الأساسية للمواطنين، وتفسد وتنهب بفجور لا مثيل له في التاريخ، فهذا صحيح أيضًا، وإن قلتم أنه نتيجة عجز أبناء الأمة المخلصين فهذا صحيح كذلك.. ما يعنينا، هنا، هو معالجة هذا العجز، هو الانتقال، من هذه السلبية التي تضع الكتلة الكبيرة من جماهير الأمة في موقع الفرجة على ذبح الأمة، وتقطيع أوصالها، إلى حالة يتحمل كلٌ مسؤوليته. وكان الأمل أن يكون “الناصريون” الذين ادعوا أنهم الحامل لراية جمال عبد الناصر في الثورة، و”الأنصار” الذين ادعوا أنهم ختموا النظرية التي وضعها عصمت سيف الدولة، وأنهم يملكون مفاتيح التنظيم القومي… أن يكونوا معًا، أو أن يفرزوا من بين صفوفهم نواة صلبة، تتمثل الغائية النبيلة للرمزين النبيلين تتجاوز التفاصيل ومطبات الفشل والإحباط ، وتهجر الأساليب والأدوات الفاشلة، وتبني مؤسسات الثورة والعمران والتطور في سياق المنهج والنظرية… لكن، وللأسف الشديد تحولت تلك الجماعات والشلل من حل إلى مشكلة إضافية، تحولوا من مشروع مؤسسة، أو مؤسسات تحمل هوية أمة وبرنامج تحريرها وحريتها وتطورها إلى الفردية والشخصانية المنتفخة بالأورام الخبيثة التي أنتجتها عقود من التخلف الاجتماعي وقرون من الفتن الداخلية، والهيمنة الخارجية.

(5)

منذ عقد من الزمان اعترفت بالفشل والعجز… لكن الحلم لم يغادرني، فألقيته على كاهل جيل عربي قادم لا يحمل الأمراض والرضوض النفسية والسيكولوجية التي تعرض لها جيلنا، وقلت يومذاك بالحرف الواحد: التاريخ؟، الأبطال؟، متى؟  لا أعرف متى؟ لا أعرف الأسماء؟ لا أعرف من أين سينطلقون؟ لكنني أعرف أنهم قادمون، قادمون حتمًا، إن الإنسان، هو الذي يصنع التاريخ، والإنسان العربي على موعد مع التاريخ، وتغيير واقعه إيجابًا، فقد آن لهذه المحنة أن تمضي، ونحن الآن في مرحلة حاسمة، تراكمت فيها، إرهاصات الثورة العربية القومية، التقدمية، بالمعنى الشامل اجتماعيًا، وسياسيًا، واقتصاديًا، وعلى صعيد الحقوق الأساسية للإنسان العربي، وحقه في التعبير، والمشاركة الديمقراطية في القرار، فالاستبداد، والديكتاتورية، والتفرّد، والطغيان، وعصابات الفساد، والإفساد، وأجهزة القمع والتعذيب، والطغيان، ذلك كله لا يؤدي إلا إلى الانحطاط، وتدمير النسيج الاجتماعي، وفتح الأبواب للغزاة، وبالتالي يجب أن تتناسب الوسائل مع الغايات النبيلة، وتكون من طبيعتها فللنهوض، للتنوير، للتحرير، أساليبه، ونواميسه، وأدواته المتمثلة أولًا، وثانيًا، وأخيرًا بالإنسان الحر، العارف، الواعي، فالمعرفة شرط الحرية، والحرية شرط الإرادة الواعية، والإرادة الواعية شرط القرار الصحيح، والقرار الصحيح شرط التقدم على طريق النهوض، والتنوير، والتحرير، فلتتخلص جماهير الجيل العربي الجديد، من الأساليب، والأدوات التي تؤدي إلى تفاقم المشكلات في الوطن العربي، ولتتخلص من أساليب العجز، والمساومة، والاستبداد، والقمع، ومن جميع أنواع الأسلحة التي تطلق إلى الخلف…في سائر المجالات)، وأنا اليوم، بالضبط اليوم على الرغم من كل هذه العواصف أكرر ذلك.

نعم، كان ذلك هروبًا إلى الأمام… أو إقرارًا بالعجز… إلى أن بدأت إرهاصات الربيع العربي، على يد جيل عربي لم يعد يطيق الخنوع والشكوى والثرثرة، لكنه، في الوقت ذاته، مجرد من الخبرة السياسية، ومن المؤسسات السياسية التي تضبط الحركة، ومن ثمّ؛ فهو قادر على إبداع وسائل لإنجاز مهمات آنية، لكنه سرعان ما يرتبك أمام الخطوة التالية، وهذا ما يفسح المجال لقوى أخرى؛ كي تحصد النتائج، أو كما يقولون: “تسرق الثورة”، وهنا تبرز أهمية تدخل القوى السياسية الحاملة لمشروع الثورة، كي تلتحم بالثوار وتضع خبراتها في الميدان، هكذا توقعت أن “الناصريين” و”الأنصار” سيستعيدون ثقتهم بأنفسهم، ويتواصلون مع جيل شاب طالما اتهموه بتهم شتى، ها هو هذا الجيل الشاب، يفتح لهم ثغرة في جدار مسدود طالما كانوا يشيعون استحالة اختراقه، ها هو هذا الجيل الشاب يجتاز حاجز الخوف، ويهزم أجهزة كانت تثير الرعب في النفوس، ها هو هذا الجيل الشاب يطلق ألسنة طال صمتها، ها هو هذا الجيل الجديد، الذي لم يكن يثير اهتمام أحد، بل كان مجالًا للتندر بأنه جيل الموضة والصرعات يُسقط لكم الطغاة، ويُطلق ألسنتكم، ويقدم لكم واقعًا جديدًا، فتقدموا أيها المناضلون المخضرمون، يا أصحاب الشعارات والنظريات لممارسة النضال، لم يعد لكم عذر من أن الأجهزة الأمنية تتربص بكم، وتحصي أنفاسكم وتخترقكم بالمخبرين وتمنعكم من تنفيذ مشروعاتكم في التحرر والحرية والتقدم، لقد سقط الطغاة لكن الأجندات المعادية مازال لها من يُخدّم عليها، الساحة باتت مفتوحة للجميع، ولا عذر لأحد… لكن لا حياة لمن تنادي… لقد انطلقت ألسنة بعضهم، لكن ليس لتحقيق الحلم العربي، ولكن للتهجم والتشكيك بالربيع العربي الذي حررهم وأطلق ألسنتهم، فهو كما يتقولون: “مؤامرة تنفذها الإمبريالية والصهيونية والرجعية…”، مؤامرة على من…؟ وهل كنا قبل الربيع العربي في حالة ثورة ونهوض وتحرر، أم أن المؤامرة هي التي كانت تحكمنا من المحيط إلى الخليج؟ هل كان هناك نظام حكم واحد في الوطن العربي لا يستجدي تنفيذ “مبادرة السلام العربية” مع الصهاينة؟ هل اطلعتم على مضمون تلك المبادرة التي تتجاوز في خطورتها اتفاقية كامب ديفيد بعشرات المرات؛ لأنها ستفتح الوطن العربي من المحيط إلى الخليج أمام النفوذ الصهيوني؟ هل كان هناك نظام حكم عربي واحد لا يمارس الفساد والطغيان والاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان العربي والنهب؟ هل كان هناك نظام عربي واحد، هدد مصالح دول الهيمنة؟ وإذا كان هذا هو واقع الأمر في الوطن العربي قبل الربيع العربي؟، فهل هناك من مؤامرة على الأمة أكثر مما كنا فيه؟ نعم لم تتوقف المؤامرة على الأمة بعد “الربيع العربي”، بل ستطوّر من أساليبها وتستغل الثغرات خاصة الفراغ الذي خلفهّ غياب قوى التحرر والنهوض عن ميادين التحرير، وبالتالي فإن هذا الغياب هو المؤامرة، أو أنه على الأقل يفسح المجال للمؤامرة؛ كي تمر لكن على “الربيع العربي”؛ لإجهاضه وإعادة الحال إلى ما كانت عليه، وإن كان بصيغ جديدة… وعوضًا أن يسأل “الناصريون” و”الأنصار” أنفسهم لماذا انفضّت الحاضنة الجماهيرية عنهم، فاختارت الغنوشي في تونس، والعياط في مصر، وفلان في ليبيا واليمن ولم تخترهم و… ثم يعيدون النظر في أوضاعهم، وينظمون صفوفهم ويستأنفون مشروع التحرر احترامًا للرموز التي ينسبون أنفسهم إليها… فقد تفرقت بهم السبل: منهم من تحول إلى بوق للطغاة يتهجم على “الربيع العربي”، ومنهم من التحق بالربيع العربي بصفته الفردية، لكن، وفي الأحوال كلها، لم يكن كل ما جرى كافيًا على ما يبدو، كي يطلقوا مشروعًا ذا صدقية، يعيد إنتاج الحاضنة الجماهيرية، لمشروع النهوض والتحرر القومي التقدمي في الوطن العربي.

عذرًا جمال عبد الناصر، لقد توقعت أن غيابك عام 1970 سيكون ميلادًا موضوعيًا لمشروعك الاستراتيجي، مطهرًا من المنافقين والأفاقين، حيث لا أنور السادات ولا حسني مبارك ولا العياط ولا السيسي، ولا كثير ممن كانوا حولك… لكن هذا لم يتحقق ربما لقصور فينا.

عذرًا عصمت سيف الدولة، كنت مع آخرين قد التزمنا عهدًا قدمناه لك في اللقاء الأخير بيننا عام 1993 أن “التنظيم القومي”سيقوم، وأنك ستشهد الميلاد في العام التالي على الأكثر، وقد عجزت عن تنفيذ الوعد، ربما للقصور الذاتي، وربما لأني تعرضت للخذلان، وما زال العجز سيد الموقف.

عذرًا جمال عبد الناصر، عذرًا عصمت سيف الدولة، إنني أبحث عن “الناصريين” و”الأنصار” في عيون الصبايا والشباب الذين يحتشدون في ميادين التحرير العربية يتحدًون الطغاة في قمة السلطات، وطواغيت التخلف في قاع المجتمع، يهتفون للحرية والتحرير والديمقراطية، وهم لا يعرفون شيئًا عن “الناصرية”، ولا عن “الأنصار”… لكن من بين صفوفهم سُيفرز “ناصريين وأنصارًا جددًا” يُحيون ميلاد مشروع نهوض، وتحرر، وتقدم، كان ميلاده ومازال الأداة الاستراتيجية التي سعى إليها كل من جمال عبد الناصر وعصمت سيف الدولة، لتحقيق الأهداف الاستراتيجية للأمة.

أما “ناصريوك التقليديون” يا جمال عبد الناصر، وأما “أنصارك” الذين عاصروك يا عصمت سيف الدولة… “فمنه العوض وعليه العوض”. ولا حول ولا قوة إلا بالله.




المصدر