من حلب إلى أستانة.. حظوظ المسار السياسي الروسي


مركز حرمون للدراسات المعاصرة

المحتويات

مقدمة

أوّلًا: اقتحام حلب

ثانيًا: الطريق الوعرة إلى (أستانة)

ثالثًا: حظوظ المسار السياسي الروسي

خاتمة واستخلاصات

 

مقدمة

لم يكن خافيًا خلال الأشهر الأخيرة تطلّع روسيا إلى تغيير مسارها في سورية عبر الانتقال من العمل العسكري إلى مسار سياسي يضع حدًّا للحرب المفتوحة، ويساعدها في الخروج من وضعٍ ما انفكّ يدفعها إلى مزيد من التورّط العسكري الذي سبّب لها مأزقًا أخذ يتعمّق يومًا بعد آخر. مسار تطمح من خلاله إلى فرض رؤيتها للحلّ السياسي للمسألة السورية بعد الوقائع الجديدة التي تمكّنت من تثبيتها عبر تدخّلها العسكري، والتغيير الذي أحدثته في موازين القوى على الأرض.

في عودة سريعة إلى الوراء، جاء التدخل العسكري الروسي في أيلول/ سبتمبر عام 2015 في لحظة كاد النظام فيها موشكًا على الانهيار. وجاء هذا التدخّل، كما هو معروف، بناءً على طلب مشترك من إيران ونظام الأسد بعد أن أدركت إيران فشلها في حماية هذا النظام. ومن ثمّ، خشيتها من اندحاره، بعد كلّ ما استثمرته، عبر تدخّلها المديد، سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا. وقد تمكّنت روسيا حينذاك من فرض شروط تدخلها على الطرفين المعنيّين، ما جعلها تتحوّل من وراء هذا التدخل إلى قوة احتلال في سورية بكلّ ما تحمله هذه العبارة من معانٍ.

بعيدًا من الأهداف، المحليّة والدوليّة، التي رمت إليها روسيا من وراء هذا التدخّل، ومن خلال إمساكها بـ “الورقة السورية” وتوظيفها في معالجة “ملفّاتها” الشائكة العالقة مع أميركا والغرب؛ فإنها كانت ترى قبل التدخّل، وظلّت ترى بعده أيضًا، أن الحلّ السياسي هو السبيل الممكن والوحيد لمعالجة الحالة السورية القائمة، وأن لا حلّ عسكريًا للخروج من هذه الحالة.

وعلى الرغم من أن الحلّ السياسي الذي تتمسّك به وتسعى لفرضه، هو ذاك الذي يُحافظ على بقاء نظام الأسد، أو يعمل على إعادة إنتاجه، مع إجراء بعض “الرتوش” التي لا تؤثر على جوهر هذا النظام، فإن هذا الأمر جعلها في حالة مجابهة إستراتيجية، أو تباين بعيد المدى، لكنه مؤثّر، مع كلّ من إيران ونظام الأسد اللذين يصرّان على أن الحلّ العسكري هو السبيل الوحيد إلى الخروج من هذه الحالة، ويعملان على إفشال كلّ مسعى سياسي.

في حدود هذه الرؤية، كانت موسكو ترى أن تدخلها العسكري وعملياتها الحربية على الأرض السورية لن يطولا كثيرًا، وأن ثلاثة أشهر أو أربعة، سوف تكون كافية لإنقاذ نظام الأسد وتثبيته، وإحداث تغيير في موازين القوى القائمة على الأرض، تكون كفيلة بجعلها قادرة بعد ذلك على تمرير الحلّ السياسي الذي يكون متوافقًا مع مصالحها، في صورة هي أقرب إلى مقولة “كلاوزفيتز” الشهيرة، إن الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى. لكن حساب الحقل لم يتطابق مع حساب البيدر.

أوّلًا: اقتحام حلب

في أحد السيناريوهات المطروحة لحلّ المسألة السورية، تبنّى كل من نظام الأسد وإيران، كما هو معروف، مشروع ما يسمى بـ (سورية المفيدة) كملجأ أخير في حال لم يتمكّن هذا النظام من إعادة بسط سيطرته على كامل الجغرافيا السورية. فقد قال الأسد في خطابه بتاريخ 26 تموز/ يوليو 2015 “سأتحدث عن أولويّتين فقط، وليس كلّ الأولويّات؛ الأولى هي المناطق المهمة، لا بدّ من تحديد مناطق مهمّة تتمسّك بها القوات المسلّحة لكي لا تسمح بانهيار باقي المناطق؛ هذه المناطق تُحدّد أهميّتها بحسب عدة معايير قد تكون مهمّة من الناحية العسكريّة، قد تكون مهمّة من الناحية السياسيّة، قد تكون مهمّة من الناحية الاقتصاديّة والخدميّة”.

يشمل مشروع (سورية المفيدة) -وفق منطق النظام- منطقة الساحل السوري، إضافة إلى حماة وحمص وصولًا إلى العاصمة دمشق. لم تكن حلب ضمن هذا المشروع، ربّما لظنّ إيران ونظام الأسد أنّ استعادتها والسيطرة عليها صعبة. لكن، بعد التدخّل العسكري الروسي في أيلول/ سبتمبر عام 2015، أخذ نظام الأسد وإيران يُعيدان النظر في هذا الأمر كونها، أي حلب، تمثّل موقعًا إستراتيجيًا مهمًا بالنسبة إلى إيران يربطها عبر العراق، بعد استعادة الموصل من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بلبنان والبحر الأبيض المتوسط، وكونها تمثّل بالنسبة إلى نظام الأسد ثاني أكبر المدن السورية، بعد العاصمة دمشق، والعاصمة الاقتصادية للبلاد. وأخذ الطرفان، إيران ونظام الأسد، يُمارسان منذ أواخر عام 2015 ضغوطًا على حليفهما الروسي من أجل مساعدتهما في اقتحامها والسيطرة عليها. لكن الروس لم يكونوا يستجيبون لمثل هذا الأمر، ربّما للتكاليف الباهظة التي يتطلبّها، علاوةً على تعقيدات هذه المسألة وإشكاليّاتها الدوليّة.

لكن، ومنذ منتصف عام 2016، تحديدًا بعد تموز/ يوليو، أخذت روسيا تعيد النظر جديًا في هذه المسألة. دفعها إلى ذلك أمران اثنان: أولهما، العلاقات المستجدّة التي أخذت آفاقها تنفتح مع تركيّا بعد الاعتذار الذي تقدّم به الرئيس التركي، رجب طيّب إردوغان، إلى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن حادث إسقاط الطائرة الحربية الروسية، وبصورة خاصة بعد الانقلاب الفاشل في تركيا في منتصف تموز/ يوليو 2016، والاستدارة التي أقدمت عليها تركيّا في سياستها الخارجية. وثانيهما، غروب شمس الإدارة الأميركية، وما يتيحه هذا الأمر من هامش أكبر في حريّة الحركة على هذا الصعيد.

تمثّل العامل الحاسم في اتّخاذ روسيا قرار الاقتحام، في الصفقة التي أبرمتها مع تركيا تحت عنوان “الباب مُقابل حلب”، حيث رفعت الغطاء بموجب هذه الصفقة عن “قوّات حماية الشعب” الكرديّة، ومن ثمّ، أفسحت المجال لتركيا للوصول في عمليّة “درع الفرات” إلى مدينة الباب، ومن ثمّ إلى منبج كما هو مفترض؛ وهو الأمر الذي أخذ يحتلّ الأولويّة في الأجندة التركية في تعاطيها مع المسألة السورية بعد الاستدارة التي أجرتها في سياستها الخارجية. مقابل ذلك عملت تركيّا على سحب عددٍ من عناصر الفصائل المسلّحة في أحياء حلب الشرقية، وإدراجهم ضمن قوّات “الجيش الحرّ” التي تعمل تحت لوائها في عمليّة “درع الفرات”، وعلى قطع الإمدادات عن الفصائل المقاتلة في مدينة حلب، ما سهّل لقوّات النظام والميليشيات الشيعيّة الداعمة لها اقتحام أحياء حلب الشرقية، في أواخر كانون الأوّل/ ديسمبر المنصرم، واحدًا بعد الآخر تحت غطاء الحملة الجويّة الشرسة للطيران الحربي الروسي.

ما كان لهذه الحملة الجويّة الروسيّة الشرسة، أن تتمّ لو لم تكن روسيا مطمئنّة إلى الحياد الأميركي تجاه هذه العمليّة، ليس من جانب إدارة أوباما المغادرة فحسب، بل من جانب إدارة ترامب المقبلة أيضًا، وخاصة أن كثيرًا من المعطيات يُشير إلى أن التواصل بين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، لم ينقطع.

ارتكبت روسيا في هذه الحملة أبشع الجرائم، لكنّ أخطرها كان في تحوّل القوّة العسكريّة الروسيّة في سوريّة إلى أداة لعمليّة تطهير طائفي منهجي، وتغيير ديموغرافي طائفي في بنية المجتمع السوري تضطلع بها إيران مع نظام الأسد. هذا في الوقت الذي بدأت فيه المؤسسات الدوليّة جمع الأدلّة على جرائم حرب موصوفة تورّطت فيها القوات العسكريّة الروسيّة ووفّرت لها الغطاء.

ثانيًا: الطريق الوعرة إلى (أستانة)

بعد إنجاز الحملة الجويّة الروسيّة أهدافها المرسومة، واقتحام المدينة من جانب قوّات نظام الأسد والحرس الثوري الإيراني وميليشياته الشيعيّة متعدّدة الجنسيّة، صدر قرار وقف إطلاق النار في مدينة حلب الذي سمح باقتلاع الناس من بيوتهم وإخلاء الأحياء الشرقيّة من سكّانها عبر عمليّة تهجير قسريّة منظّمة، ومن ثمّ ممّن تبقّى فيها من المقاتلين وعائلاتهم. وقد حاولت إيران، عبر ميليشياتها المدفوعة بروح الثأر والانتقام، عرقلة تنفيذ هذا القرار، ما اضطر روسيا إلى فرض إرادتها وإلزامها تنفيذه، في تباين علني واضح بين الطرفين. وعلى ما يبدو، فإن روسيا المتلهّفة للاستثمار السياسي لـ “نصرها” العسكري الذي تحقّق لها في حلب، عملت على إصدار قرار وقف إطلاق النار في أرجاء سوريّة كافّة بمشاركة من تركيّا، في تهميش واضح لإيران، ودخل حيّز التنفيذ بدءًا من 30 كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي بعد موافقة نظام الأسد والمعارضة على تفاهمات روسيّة-تركيّة. وقد مرّر مجلس الأمن مشروع قرار قدّمته موسكو في مبادرة مشتركة مع تركيا، بعدما أدخلت الولايات المتحدة والدول الغربية تعديلات عليه استجابت لها موسكو، وأقرّ بإجماع أعضائه القرار 2336 الذي يؤكّد مرجعيّة بيان جنيف وقرارات المجلس في هذا الخصوص، ويُشير إلى أن مفاوضات أستانة هي “جزء من العملية السياسيّة التي ترعاها الأمم المتحدة”، في مواجهة نزوعٍ لدى موسكو كانت تتوخّى من ورائه فرض أستانة مرجعيةً بديلةً لـ “جنيف”، وفي هذا السياق أدلى سفير روسيا لدى الأمم المتّحدة، فيتالي تشوركين، بتصريح في 30 كانون الأول/ ديسمبر أعلن فيه أن محادثات أستانة ليست منافِسة للمفاوضات التي تُحضّر الأمم المتّحدة لعقدها في 8 شباط/ فبراير المقبل. وفي حال إنفاذ هذا القرار والتزامه من الأطراف المعنيّة، ستنطلق مفاوضات سياسيّة بين النظام والمعارضة في أستانة عاصمة كازاخستان برعاية أمميّة -روسيّة -تركيّة قبل انتهاء كانون الثاني/ يناير 2017.

وكما حاولت إيران عرقلة تنفيذ قرار وقف إطلاق النار في مدينة حلب، فهي تعمل أيضًا على عرقلة تنفيذ “اتفاق أنقرة”. وما تقوم به “قوّات النظام” وميليشيات “حزب الله” في وادي بردى، وفي مناطق أخرى أيضًا، بذريعة مواجهة “جبهة فتح الشام – النُصرة سابقًا” المستثناة هي و”تنظيم الدولة الإسلاميّة – داعش” من الاتفاق المذكور، يُشير إلى مدى هشاشة هذا الاتفاق المُهدّد في كلّ لحظة بالانهيار. وإذا فشلت روسيا في إلزام إيران ونظام الأسد التقيّد بتنفيذ الاتفاق، فإن هذا يعني، من وجهة نظر المعارضة، أنها غير مؤهّلة لتقديم ضمانات مستقبليّة على جبهة التسوية السياسيّة.

بمعزلٍ عن المعلومات التي تؤكّد أن الوثيقة التي وقّع عليها نظام الأسد ليست الوثيقة ذاتها التي وقّعت عليها المعارضة، وأن هناك تباينًا بين الوثيقتين، ما قد يخلق إشكالات في تنفيذ القرار يُمكن أن تودي به، فإن التفاهمات الروسيّة- التركيّة التي وافق عليها نظام الأسد والمعارضة استندت إلى مسوّدة الوثيقة الروسيّة التي نوقشت في مفاوضات سريّة في أنقرة بحضور الاستخبارات التركيّة، وتضمّنت أوّل مرّة اعترافًا روسيًا بشرعيّة فصائل عسكريّة إسلامية مُعارضة. وليس من شكّ في أن شرعنة هذه الفصائل في “مفاوضات أنقرة”، ومن ثمّ في “أستانة”، هو تغيّر مهمّ في الموقف الروسي مقارنة بما كان عليه الحال في المحادثات مع الولايات المتّحدة منذ انطلاق “عمليّة فيينا” وتأليف “المجموعة الدوليّة لدعم سوريّة” وإقرار “وقف العمليّات القتاليّة” في شباط/ فبراير العام الماضي. لاقى التغيّر في الموقف الروسي، امتعاضًا شديدًا لدى إيران ونظام الأسد اللذين يعُدّان هذه الفصائل “إرهابيّة” و”تكفيريّة”. علاوةً على هذا، فإن المحادثات التي جرت في أنقرة بين العسكريين الروس وممثّلي فصائل المعارضة انتهت إلى إقرار نقاط محوريّة ثلاث: الأولى، أن روسيا وتركيّا ضامنتان لوقف النار، على أن تكون روسيا ضامنة لحليفيها، إيران ونظام الأسد، وتركيّا لفصائل المعارضة؛ والثانية، أن لا حلّ عسكريًّا في سوريّة، ما يعني الإقرار بأن الحلّ السياسي هو السبيل الوحيد لمعالجة الحالة السوريّة، في مواجهة نزوع إيران ونظام الأسد للحلّ العسكري؛ والثالثة، أن وقف النار الشامل هو خطوة أولى نحو تطبيق القرار 2254. ثم إن المُقترح لـ “حوار أستانة” هو توثيق نتائج “محادثات أنقرة” وتوقيعها من الأطراف المشاركة، على أن تجري شرعنتها في “مفاوضات جنيف” برعاية أمميّة. هذا كلّه يُشير إلى أن أستانة، في حال عقدها، سوف تكون معقّدة وعسيرة وطويلة.

ثالثًا: حظوظ المسار السياسي الروسي

تُشير مصادر مُقرّبة من موسكو إلى أنه سوف يكون هناك في أستانة تفاوض مُباشر بين عسكريّين وسياسيّين يمثّلون المعارضة، وعسكريّين وسياسيّين يمثّلون النظام، وسيكون هذا سابقة في تاريخ اللقاءات بين الجانبين حتى الآن.

ومن الواضح أن الروس يعملون على أن يكون اللقاء المُرتقب في أستانة وسيلة لتوجيه مجرى المحادثات، وللتحكّم في صورة الحلّ السياسي، عن طريق التحكّم في الممثّلين السوريّين الذين سوف يُدعون إليه، وفي الأجندة الخاصة به.

وعلى الرغم من أن كازاخستان التي تستضيف المؤتمر، أو موسكو، لم تُوجّها بعد أيّ دعوة للحضور، وسط توقّعات بأن تُرسل الدعوات بعد العاشر من كانون الثاني/ يناير الجاري، أي في عقب الموعد المحدّد للقاء الخبراء الروس والأتراك في أنقرة (وهو اللقاء الذي سوف يجري فيه، بحسب تصريح وزير خارجية تركيّا، مولود جاويش أوغلو، في الرابع من الشهر الجاري كانون الثاني/ يناير، التخطيط لمحادثات أستانة المُزمعة، وسوف يبتّ، على ما يبدو، في ما تبقّى من مسائل قبل انعقاد المحادثات)، فقد أشارت مصادر مُعارِضة إلى أن “الروس يعملون على مسارين: الأوّل، عسكريٌّ يشمل الفصائل المسلّحة المدعومة من تركيّا والقابلة بالتنسيق مع الروس، والثاني، سياسيٌّ يشمل منصّة موسكو وأستانة وجزءًا من منصّة القاهرة ومنصّة حميميم وهيئة التنسيق الوطنيّة، في حين يجري العمل على إشراك الأكراد متمثّلين بقوّات سوريّة الديمقراطيّة”، وسط تسريبات، بحسب مصادر المعارضة ذاتها، مفادُها أن روسيا لا تفضّل دعوة “الهيئة العليا للمفاوضات” أو “ائتلاف قوى الثورة والمعارضة” بصفتهما الاعتباريّة، وأنها قد تدعو أعضاءً منهما بصفاتهم الشخصيّة، وهو أمر يثير كثيرًا من الظلال والشكوك حول مدى نجاح لقاء “أستانة” المُزمع، خاصّة أنه، في حال الذهاب إلى جنيف، فإن المرجعيّة ستكون لقرار مجلس الأمن 2254 الذي يُسمّي في متن نصّه “الهيئة العليا للمفاوضات” التي لا يُمكن استبعادها.

في حال انتقلنا إلى صُلب المحادثات، فإن أجواء التوافق الروسي- التركي- الإيراني التي تبدّت في “إعلان موسكو”، تُخفي في ثناياها كثيرًا من الخلافات والمطبّات. وإذا كان الأبرز في المسائل المطروحة الموقف من النظام ورأس النظام، فإنّ إيران تُصرّ على استمرار النظام ورأسه، حتى بعد إنجاز التسوية النهائية للمسألة السوريّة، وروسيا، الأقلّ تشدّدًا من إيران، لا تتراجع عن موقفها في إعادة إنتاج النظام مع بعض الإصلاحات و”الرتوش” فيه، لكن، يُمكن أن يكون لديها استعداد للتخلّي عن رأس النظام في سياق العمليّة السياسيّة، أي في إحدى محطّات المسار الذي يأخذه هذا السياق؛ أمّا تركيا، فهي مع تغيير النظام ورحيل الأسد عند بدء المرحلة الانتقالية أو في إحدى محطّاتها. وهذا كلّه يُشير إلى مدى صعوبة المحادثات المُنتظَرة وتعقيدها، وإلى مدى انفتاحها على المجهول.

في موضوع آخر يتعلّق بالموقف من حزب الله، والميليشيات الشيعيّة، يبدو أن إيران، بعد الاستثمار الهائل الذي وظّفته في المسألة السوريّة، ليست مستعدّة للمساومة على وجودها، وعلى إضفاء الشرعيّة على هذا الوجود الذي يُتيح لها الاستناد إلى قوة خاصّة تضمن لها بقاء النظام ورئيسه تحت هيمنتها؛ لكنّ روسيّا تتطلّع إلى وقت تخرج فيه هذه الميليشيات جميعها، ليس على أرضيّة معارضتها بنية هذه الميليشيات الأيديولوجية فحسب، بل لأن استمرار وجودها يمثّل خللًا في استراتيجية سيطرتها على سوريّة؛ أمّا تركيّا، فهي تُعارض هذه الميليشيات ليس لبنيتها الطائفية فحسب، إنما لما ارتكبته من جرائم طوال سنوات وجودها في سوريّة، فضلًا عن كونها تُمثّل امتدادًا للنفوذ الإيراني عند حدودها الجنوبيّة. وقد أثار تصريح وزير خارجيّة تركيّا، مولود جاويش أوغلو، الذي أدلى به في 30 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، بعد سريان قرار وقف إطلاق النار، وطالب فيه بخروج جميع المقاتلين الأجانب من سوريّة، بمن فيهم عناصر حزب الله، ردّة فعل سريعة وغاضبة من جانب إيران حين صرّح، في إثر ذلك، المتحدّث باسم خارجيّتها، بهرام قاسمي، بقوله “إن الحديث عن تقاسم النفوذ في سوريّة بين روسيا وتركيا وإيران كلام لا قيمة له” مؤكّدًا أن بلاده “لن تسمح بذلك”. هذا يُشير أيضًا إلى المجابهات التي يُمكن أن تحدث.

ومع الأخذ في الحسبان وجود كثيرٍ من التحليلات الجدّيّة التي تميل إلى تأكيد حظوظ روسيا في إنفاذ رؤيتها للحلّ السياسي للمسألة السوريّة، فليس من شكّ في أن الروس يُدركون أن حلًّا مثل هذا يتطلّب أمرين اثنين: الأوّل، توافر الإرادة السياسيّة، والثاني، الوصول إلى الحدّ الأدنى من التوافق الدولي حيال هذه المسألة، وخاصة بعد أن خرجت من أيدي السوريّين، وهو أمر لا نتبيّنه قبل تسلّم الإدارة الأميركيّة المنتخبة مقاليد السلطة في البيت الأبيض.

خاتمة واستخلاصات

سواء نجح الروس عبر مسارهم السياسي في الوصول إلى الحلّ الذي يتطلعون من خلاله إلى المسألة السورية، أم لم ينجحوا في ذلك؛ فإن هذه المسألة، على الأغلب، سوف تبقى عصيّة ومستمرة زمنًا. ليس في وسعنا، في ضوء المعطيات القائمة، استشراف مداه؛ ذلك أن الحلّ الروسي، إذا قُيّض له النجاح عبر توافق دولي عليه، وهذا أمر ليس مستبعدًا، لن يلبّي الحدّ الأدنى من تطلّعات السوريّين ومن مطالبهم التي عبّرت عنها ثورتهم، ولن يكون وجه سوريّة بعد هذا الحلّ مُغايرًا كثيرًا للوجه الذي عرفه السوريّون وعايشوه على مدى عقود من الزمن، وثاروا عليه، ومن ثمّ، سوف تبقى مفاعيل ثورتهم قائمة ومستمرة في أشكال أخرى جديدة تحدّدها الوقائع المستجدّة التي سوف تقوم، وربّما بأدوات أخرى أيضًا. وفي حال فشل المسعى الروسي في الوصول إلى الحلّ الذي يتطلّعون إليه عبر التوافق الدولي المطلوب، فإن المسألة سوف تشهد مزيدّا من التعقيد، وربّما تدخل في دهاليز مُعتمة لن يكون سهلًا رؤية الضوء في نهايتها.

هذه اللحظة تتطلّب من السوريّين، إذا أرادوا لثورتهم أن تستمرّ وتحقّق القدر الأكبر من أهدافها، أن يقفوا مع الذات ويراجعوا مراجعة جديّة ومسؤولة مسارهم عبر السنوات الستّ المنصرمة انطلاقًا من الوقائع الموضوعية التي شهدت كثيرًا من الأخطاء والمطبّات والإخفاقات، وبدلالة التطلّع إلى المستقبل المنشود.

نقصد بالسوريّين أوّلًا، تلك الكيانات السياسية، وحتى الفصائل العسكريّة، التي قامت على هامش الثورة لتكون ممثّلة لها وناطقة باسمها وباسم السوريّين، وعاملة من أجلها وأجلهم، بعد الحالة البائسة التي وصلت وأوصلت الثورة إليها. ونقصد بهم ثانيًا، جميع القوى والأحزاب والهيئات والتشكيلات السياسيّة والمدنيّة التي تزعم أنها تقف إلى جانب الثورة وترفع لواءها.

قد يكون البيان الذي صدر مؤخّرًا، ووقّع عليه عدد من الشخصيّات الثقافيّة والسياسيّة، بما تضمّنه من محاولة لمراجعة جديّة مطلوبة قبل فوات الأوان، خطوة في هذا الطريق. لكن، ما معنى أن يوقّع عليه بعض الموقّعين بصفاتهم الشخصيّة، وليس التمثيليّة، وهم أعضاء بارزون وفاعلون في المؤسسة، أو المؤسّسات، التي ينقدون؟! هل نعيش حالة من الازدواجيّة والانفصام، والبحث عن براءة للذمّة، فيكفينا هذا شرّ القتال؟ أم أن هذه المؤسّسات وصلت بارتهانها بالآخر إلى حالة من الأسر والعطالة والبطالة، واستمراء التعيّش على هذه الحالة والتكسّب من ورائها، إلى درجة أصبح معها الإصلاح بعيد المنال؟!

إذا كان المنوال على هذه الحال، فليس أمام السوريّين، من خارج هذه الأطر والأشكال كلها، إلّا التطلّع إلى العمل على كيان سياسي وطني جامع يستمّد شرعيّته من الداخل أولًا، ومن أدائه ثانيًا، ويتوجّه انطلاقًا من نقده التجربة المرّة التي نعيش، ليس إلى غد أو بعد غد فحسب، بل إلى صنع المستقبل الذي يُمكّننا من إقامة دولتنا الوطنيّة الحديثة ومجتمعنا الديمقراطي التعدّدي بعيدًا من جميع أشكال النزعات العقائدية والأيديولوجيّة المغلقة، والنزعات الإسلامويّة الأيديولوجيّة، الإقصائيّة والمتطرّفة، التي تشكّل الوجه الآخر للاستبداد الذي ثار السوريّون عليه طلبًا للحريّة والعيش الكريم.

هذا قدر السوريّين، والسوريّون كفيلون بمواجهة قدرهم.




المصدر