الرواية بين متعة القراءة والنقد


أنجيل الشاعر

القراءة فعل إنساني يستجيب لواحدة من الحاجات الجذرية لدى الإنسان، هي الحاجة إلى النمو والتجدُّد، نمو المعرفة وتجددها وانفتاحها على آفاق إنسانية رحبة، ونمو الملكات العقلية والأخلاقية ونمو الذوق والقدرة على التمتع بالجمال. والمطالعة المستمرة أو قراءة الاستمتاع هي الوسيلة التي يعتمد عليها الشخص لتحقيق فعل القراءة البنَّاء. وليس من السهل السعي وراء القراءة وإتقانها، لأنها تتطلب من القارئة والقارئ شحنة عالية من القوى الذهنية والنفسية، لتكوين ثقافة تُنضِج شخصيتها أو شخصيته وتميزها، وبحسب رأي جراهام جرين: “إن حياة الفرد تتشكل بواسطة الكتب أكثر مما يسهم الفرد نفسه في تشكيل هذه الحياة”.

وقال فولتير: “سُئلت من سيقود الجنس البشري؟ فأجبت: الذين يعرفون كيف يقرؤون”، بذلك تكون القراءة عملية معرفية إدراكية يُستخدم فيها العقل للربط بين الكلمة والمعنى، وتختلف القراءة حتمًا من قارئ إلى آخر، فالقراءة من أجل تقطيع الوقت ليست كالقراءة من أجل تنمية المعرفة والثقافة وتجديدهما، والقراءة من أجل المتعة والتحليق وتذوق الجمال والإبداع، تختلف عن القراءة من أجل النقد والتحليل والتركيب واستنباط القواعد.

يمارس النص المكتوب، بوجه عام، سلطته على القارئ؛ وهذا موضوع مستقل بذاته، فقد رأى “رولان بارت” “أن النص نسيج كشبكة العنكبوت، يتكون ويصنع نفسه من خلال تشابك مستمر، وهو منتَج وحجاب حاجز، يكمن وراءه المعنى الحقيقي مختفيًا. ولو أحببنا عمليات استحداث الألفاظ لاستطعنا وصف “نظرية النص بأنها علم نسيج العنكبوت (وهو العنكبوت وشبكته)”. يربط رولان بارت في هذه الفكرة بين النص والكاتب، كما يرتبط النسيج بالعنكبوت.  وإذا أخذنا النص الأدبي مثالًا سنلتقي بالرواية ونسيجها المعرفي والجمالي، بل بالروائي ونسيجه.

بما أن الرواية نسيج من الذاتي والموضوعي، من التاريخي واليومي ومن الشعوري واللاشعوري، ومن الواقعي والمتخيَّل، فهي تنتمي إلى حقول متعددة ومتباينة في بعض الأحيان، يوظفها التخييل عن طريق اللغة، فيكون أمامها قارئان، قارئ شَغِف، يستمتع بمصاحبة الأدب ومتابعة الإبداع، وقارئ ناقد يحفر في طبقات الدلالة الظاهرة والخافية، فينشغل عن جمالية النص والمتعة التي تتيحها عناصره، مع العلم بأن القارئ الناقد يشعر بشغف القراءة من الوهلة الأولى في النص الروائي، لكنه يلغي نزوعه الذاتي في متعة القراءة أو يعلقُّه أمام مسؤولية النقد وتحليل الظواهر وإظهار خفايا النص واكتشاف رسالته/ رسائله، إذ ينظر إلى النص بعين متفحصة دقيقة تكشف دقائق الرؤية الفكرية بأدواته النقدية ومعاييره أو روائزه، لذلك لا يستطيع الناقد أن يكون كاتبًا آخر للنص، كالقارئ العادي، الذي يسبح في أفق خياله ويرسم صورًا وشخصيات جديدة للنص، أو يتقمصها في بعض الأحيان، ولا يمكنه أن يكون قارئًا عاشقًا للنص، أو ينتج دراسة نقدية يعشقها الآخرون، لأن النقد، في دلالته اللغوية، هو فرز الصحيح من الزائف، وهو، حسب “سعيد يقطين” يهدم ويبني، لذلك يكون الناقد في حالة نفسية جافة نوعًا ما وخالية من الشوق إلى قراءة النص أو الشغف به. وقد يكون الناقد قارئًا وناقدًا، فلا يخلو نقده من انطباعية. ويلفت النظر في هذا المجال استشهاد مفكرين وفلاسفة بأعمال أدبية، يكشفون فيها عما قد يغفل عنه القارئ والناقد.

مما لا شك فيه أنه يترتب على الناقد مسؤولية البحث في تحديد الدلالة الرمزية وتعيين القرائن ودراسة التواصل بين الكاتب والمتلقي، وحسب ما ورد في كتاب مستجدات النقد الروائي للدكتور “جميل حمداوي” “….على الباحث تحديد آليات التواصل والتلفظ، ودراسة المعينات الزمنية عبر جرد المؤشرات الزمنية وتحديد بنيتها، وإبراز زمنية الأفعال، مع استخلاص دلالتها ووظائفها ومقاصدها القريبة والبعيدة”. فالكاتب يذهب بذاته إلى فعل الإبداع وخَلق المتعة وشغف الكتابة وغواية اللغة والتلاعب الإبداعي فيها، والقارئ يذهب بذاته إلى متعة التذوق عشق القراءة وغواية الدهشة، وبين ذات الكاتب وذات القارئ المندهش والمستمتع بالقراءة يفتقد النص إلى عين الناقد المتفحصة وبصيرته المحللة. ولا يعني هذا أن النص الروائي يحتاج إلى تنشيط من الناقد لأنه ليس “آلةً كسولًا”، كما وصفه “ألبيرتو إيكو”، تحتاج إلى فعل القراءة قصد تنشيطها، لكنه يحتاج إلى تفعيل النشاط الموجود فيه أصلًا، ولا يكتفي النص الروائي في التغني بسحره وجماله من قِبل القارئ الشغوف، إنما يتطلب المزيد من إظهار خفاياه ومكنوناته بأدوات نقدية تبوح بالمضمر فيه وتجمّل الظاهر منه، وتدحض كل تأويل هش، ويكون الفاعل الأول في إنتاج المعنى. وقد ينظر الناقد إلى النص نظرة تجزيئية من خارج النص ليضيء على الدال والمدلول، ويجعل حقيقة ما وراء الكلام واضحة وخلاقة. وعلى الرغم من أن الكتابة الإبداعية سابقة للنقد، إلاّ أن الناقد يستدعي هذا الإبداع إلى الوعي في دينامية الكتابة ويجعل الفعل الإبداعي يخوض في معترك النقد ويراهن على الابتكار والدهشة.

في هذا السياق، يوظف وولف كانك إيزر مفهومات قرائية، مثل: «سجل النص» و«استراتيجيته» و«مواقع اللاتحديد» فيه و«بناء الإطار المرجعي» المشترك، وذلك؛ من خلال القراءة التعاقبية أو الوعي المتتالي الذي تجري فيه عملية تجميع المعنى الكلي للنص ووضع أساس لفهمه «وتقبله».

لدى الكاتب في الرواية مجال واسع وفضاء مفتوح للبوح، فالرواية هي الجنس الذي ابتلع سائر الأجناس الأدبية. كما يجد القارئ (المتلقي) فيها مجالًا وفضاءً للتحليق والتأويل. والذي أعطى الأول والثاني ما أعطاهما في هذا الجنس الأدبي دون سواه، هو اللغة، فإن لغة الكاتب اختيار واختبار، يختار مفرداته لتعكس فكره واتجاهه وذوقه، ويختبر قدرتها على تحقيق غايته في فكر المتلقي ونفسه ووجدانه، وأن تكون له بصمة ويصبح له قاموس. فللألفاظ تاريخها وروائحها وسماتها، زمانًا ومكانًا، وليست مجرد أدوات. ولا يخلو أن يقع الكاتب في الإسهاب فتصير اللغة لغوًا وغلوًا، وتجنح به إلى متاهات اللا معنى، وتترك في نفس القارئ شعورًا بالخيبة.

ليس كل ناقد روائيًا، وليس كل روائي ناقدًا، أما القارئة فهي روائية وناقدة، وكذلك القارئ.

فهيا إلى القراءة.




المصدر