الشاهدات رأسًا على عقب


محمود الوهب

بصمة الأديب

لكل أديب سمته الخاصة التي تميزه عن غيره، بل إن هذه الخصوصية هي التي تسِمُه، بوصفه أديبًا، وهي التي تحجز له مكانًا في قاطرة التاريخ الأدبي لشعب ما، أو للإنسانية جمعاء.. أما هؤلاء الذين يقلدون، ويكررون، فلا تمرُّ تلك القاطرة على مواقفهم المصنَّعة، وإن تعبت أيديهم من التلويح، وبُحّت أصواتهم من الصياح!

إن الخصوصية التي أعنيها إما أن تأتي من الموضوع المختار، أو من شكل التناول، أو من تماهي الاثنين بعضهما ببعض. وقد تأتي من أمور أخرى مستحدثة، وهذا هو الأهم، لكني لا أريد، الآن، الاستفاضة بهذا الشأن، فما أبتغيه تسليط الضوء على أديب شاب، ربما لازال قلمه يحبو في عتبة الأدب. لكن همته، فيما تبدو لي على الأقل، عالية وعدته واثقة من أصالتها بـ وتأصيلها لـ نفسها، وتأتي شهادتي من الرؤى الكثيرة التي تقولها: رواية “الشاهدات رأسًا على عقب” لـ: راهيم حساوي. وتحديدًا من أسلوب تناولها لموضوعها الكامن دائمًا في العمق الروحي للإنسان، وفي هواجسه وتساؤلاته، إنه الاغتراب الوجودي الذي أبدع في تصوير جوانبه وأبعاده غير أديب. ويأتي عليه حساوي، اليوم، من باب آخر. كذلك تأتي الشهادة من جملة الكاتب الأدبية الموحية، والمفتوحة على أكثر من تأويل، يتصل، في نهاية المطاف، بخيط النص السردي، الممتد هادئًا رتيبًا، يتلاءم مع ردود الفعل الروحية البعيدة والبطيئة في آن، لبطل الرواية، ذلك الخيط المتصل بنبض الإنسان المقهور فعلًا، أو الذي لديه إحساس بأنه نكرة في هذا العالم الصاخب بالضجيج والوجع.

الحصار الروحي للإنسان

إنَّ مجمل أفكار الرواية يمكن إجمالها بفكرة عامة واحدة، يوصلها النص إلى متلقيه بيسر، وعبر أحداث بسيطة، وعادية، هذه الفكرة هي:

“أن الإنسان محاصر على الصعيدين: الكوني والمجتمعي”، فهاجس البطل، “جابر الزايم” من خلال ما يمنحه السرد الروائي من معطيات هو التفكُّر الدائم بمسألة الموت الذي تعمق مأساته المقبرة القريبة من بيته، فهي التي تمدُّ هذه الفكرة بالنمو والتفرع في نفسه عبر مجيئه وذهابه سواء في الليل أم في النهار، موصلة إياه إلى نوع من أصداء الفلسفة الوجودية التي سادت في فترة خمسينيات القرن الماضي وستينياته، إذ اطلع القارئ العربي على الأعمال الأدبية/ الفلسفية لـ: ألبير كامو، ولـ: جان بول سارتر، ومن بعدهما كولن ويلسون، وقد عكست تلك الأعمال تأثيرات مآسي الحرب العالمية الثانية. ففي الكثير من تلك الأعمال الأدبية ترى الهواجس الروحية القلقة تختبئ في أثناء عدم الاكتراث تجاه الأحداث البالغ تأثيرها في حياة الناس. وهذا ما نجده في أثناء “الشاهدات..”؛ فصورة الموت لا تتبدى في المقبرة المجاورة فحسب، ولا بتمرير أصابع يد البطل على الحروف النافرة المكتوبة على الشاهدات، بل إن مخدة نومه تبدو له شاهدة قبر أيضًا. ما قوَّى ذلك الجانب موت صديقه الشاب رشاد المفاجئ، إذ “مضى إلى حتفه الذي كان ينتظره في سلك كهربائي” ص 37

والقلق الممزوج بالخوف ملموس في الانتقال من مكان إلى آخر من غير سبب واضح، وأحيانًا في الرغبة بالقيام بعمل ما دونما حاجة لفعله، أو للتأكد من إنجازه! “وذهبت إلى باب البيت لأتأكد من إغلاقي له على الرغم من يقيني بأني قد قمت بإغلاقه جيدًا،” ص32. كما يبرز ذلك القلق الروحي من خلال تلقي الأحداث اليومية ببرود لا متناه!

وأقدار يصنعها الإنسان..

وإذا كانت تلك الهواجس الوجودية، تعود إلى قدر الموت المحتوم، فثمة أمور أكثر تأثيرًا بقسوتها على روح الإنسان، مصدرها الإنسان الآخر القوي المتسلط، فهذه تجعله يعاني الضيق الدائم والإحساس العميق بالقهر؛ ما يؤدي إلى اتخاذ موقف سلبي من الحياة. بل من الناس أنفسهم: “وكم يتمنى المنتحر، لو أنه يعود للحياة بعد موته، ليرمق عيون الذين دفعوه إلى الانتحار كي يقول لهم: أيعجبكم هذا؟!” ص 72

وثمة حادثة تستوطن روح بطل الرواية “جابر الزايم” منذ أن كان طفلًا، إذ تعرَّض، بسبب حبة مشمش اقتطفها دون إذن من صاحبها، للحبس في صندوق خشبي قديم، يشبه التابوت! ليعاني فيه التعذيب النفسي المرير، بعد مطاردة رهيبة، لاحقه فيها رجل لئيم، جعلته يتمنى، قبيل أنْ يصبح بين براثن الرجل، لو أنَّ الله أمات ذلك اللئيم، بل يجب أن يموت. “اقترب مني، ولم يعد يفصله عني إلا حلم رأسي الذي ظلَّ يترنح، ويتخبط بين كتفيَّ، وأنا أهذي في داخلي: يجب أن يموت. في تلك اللحظة، حطت يده على عنقي بخمس أصابع، سوَّرت كل شيء في داخلي” ص 60

هذه المطاردة وما تلاها أحدثت في نفس الطفل شروخًا لم يقو الزمن على لأمها، ما جعل الرواية تنحو باتجاه الروايات النفسية إلى جانب روحها الفلسفية. فحبة المشمش بطعمها الحلو وشكلها الجميل، تشكل حلمًا لطفل عابر، يجدها مثل ضوء يناديه، فيقبل عليها فيلقى ما يلقى، إذ يفرض على الطفل أن يأكلها متفسخة أو ملوثة بمخاط الرجل عبر ثقب صغير في صندوق حبسه. إنها الحياة التي يستأثر فيها أناس معينون، ويحجبونها بالقوة عن غيرهم. ولا تكتفي الرواية عند هذا الحد من تصويرها لهذا الرجل اللئيم الذي تسميه الرواية بـ: “سارق دهن العقول”، فهو الذي يتجاوز على ما يتوهمه “الزايم” حبًا، ما يقوده إلى محاولة انتحار فاشلة.

عبارات تستوقف القارئ

أما الأمر الذي قوى العناصر الفنية في الرواية هو جملتها الأدبية الدالة والمفتوحة على التأويل برحابة، فالكاتب لا ينشغل بالحدث المدهش، أو الغرائبي، بل تراه يستعرض أحداثًا عادية قد لا تلفت. فهو على سبيل المثال، لا يأخذ قارئه إلى دكان الحلاق ليريه أصدقاءه، أو ليسمعه قصصًا اعتادت الناس عليها في مثل تلك الأماكن، بل ليريه مرآة الحلاق التي تمتص وجوه الزبائن الكثر، وليتساءل عن الآثار التي تخلفها فيها، وربما أحال القارئ إلى حالة فيزيائية عن جوهر العملية وماهيتها، مما قد لا تخطر في باله أبدًا، أو إلى حال فلسفية لها علاقة بوحدة الوجود، وقرب الأشياء والأحياء بعضها من بعض، أو تداخلها في ما بينها، لنمعن إلى هذه العبارة: “وراحت المرآة تمتص وجوهنا لتضيفها إلى العدد الهائل من الوجوه التي امتصتها منذ لحظة صنعها.. هذه المرآة هي الوحيدة القادرة على مشاركة ذاكرتي في رصد تفاصيل لقائي الأول بمنار” ص: 10.

أسئلة الكاتب في الرواية أسئلة وجودية، فالناس من وجهة نظر “جابر الزايم” لا يذهبون إلى الحلاق كي يتخففوا من شعورهم، وليتحسسوا نوعًا من متعة الخفة، والشكل الجميل، بل لأمر آخر تمامًا: “كي يحلقوا شعورهم، ويمضوا حيث مكان آخر ينتظرهم، ليدخلوا بوابة أخرى من بوابات الانتظار الذي لا ينتهي إلا عند شعور المرء بعدم رغبته في الحياة” ص: 9.

يلاحظ القارئ هنا، كم تنطوي هذه العبارة على انعدام جدوى الحياة ومللها. فلا فرح، ولا عمل ينفع أو تسلية تمتع، بل انتظار حتى الموت، ومن ثمّ؛ لا فائدة ترجى من الحياة ما دام الموت يتربص بالإنسان.

لن آتي بأمثلة كثيرة، فالرواية، على صغر حجمها، مليئة بها، ولكن لا عبارة زائدة، ولا جملة وجدت عن عبث، بل إنَّ كلَّ ما فيها يؤكد عبثية الحياة. ولعل المشهد الأخير في الرواية من أهم المشاهد، إذ يصف أدق ما يعانيه الزايم، وقد قرر التخلص من الحياة.. لكنه التردد “الهاملتي” الذي لا يأتي من رغبة في الانتقام، بل من رغبة في الخلاص عبر الموت. وتبقى بعض الرموز عصية على تأويل محدد ما يقربها من جوهر الأدب أكثر…!

الرواية: “الشاهدات رأسًا على عقب”

الكاتب: راهيم حساوي.

الحجم: 130 صفحة من القطع المتوسط

الناشر: دار العين/ القاهرة 2014




المصدر