جَهلة مستغِلون.. و لصوص في وضح النهار .. تجار “الأزمات” في سوريا: تحيا الحرب


 

بعد أن هاجر آلاف السوريين للخارج بحثاً عن معيشة تحفظ لهم كرامتهم على الأقل. هاهي الظروف في الداخل تطحن من تبقوا في وطنهم حيث لم يعُد هناك مكان للضعيف حالياً، ولا نبالغ إن قلنا بأن سوريا أصبحت غابة.

الذئاب كثُر، ولا كرامة هنا لأحد؛ شيوخاً أونساءً، ولا حتى متعلمين، كلهم سواسية، في طوابير الذل “الغاز والمازوت والماء”، حتى أساتذة الجامعات لم يَسلَموا من هذا الذل، بل عليهم أن يصطفوا ضمن دور المازوت والغاز والمعونات، وعليهم أيضاً أن يحصلوا على توقيع موزع الغاز، والغريب أن التوقيع يجب أن يكون على اليد، وإذا لم يكن هذا التوقيع- الذي ربما يعتبر أهم من توقيع الوزير- على كف يد الدكتور والمهندس والأرملة فلا يمكنهم ان يستلموا جرة الغاز مثلاً.

 

 

أثرياء لا يعرفون الكتابة ولا القراءة

 دوامة معيشية يومية يدور فيها المواطن السوري الضعيف الذي لا حول له ولا قوة، من أزمة إلى أخرى حتى بات لا يستطيع أن يفكر من أين يبدأ، هل بالبحث عن ماء له ولأسرته، أم “تقبيل الآيادي” للحصول على جرة غاز، أم ينتظر دوره الذي لم يأتِ منذ شتائين للحصول على بضع ليترات من المازوت أم ماذا؟

وما زاد الطين بلة أن أبناء جلدته باتوا يتاجرون بمقدرات معيشته، فانتشر المستغلون وكشر المتاجرون عن أنيابهم، فهم يرحبون بفصل الشتاء؛ فصل الأزمات المعيشية، وبات “أبو عبدو” بائع المازوت يلعب بالمليارات وينادى “بالبيك”، وأصبح “أبو سعيد” صاحب صهريج الماء تاجر عقارات وأراضي، وأصبح “أبو مجد” من ميليشيا اللجان الشعبية يَركب سيارة “الشبح”، ولديه مرافقة وسائق، بل إنه يأمر وينهي ويتحكم بمصير الناس، وهو الذي لا يعلم “الألف من العصا”.

ثروات جُمعت مقابل تجويع وذل المواطنين الفقراء، وطبقة من الأثرياء ظهرت لا تعرف القراءة والكتابة، هذه الطبقة من الأثرياء باتت تتوسع على حساب بقية الطبقات الأخرى، فتم مَحو الطبقة الوسطى من المجتمع وبات هناك 3 طبقات فقط، الأثرياء، والفقراء، ومن هم دون خط الفقر، وهم كثر ويزدادون يوماً بعد يوم.

 

الحياة لا تطاق

الحياة باتت لا تطاق مع سوء الخدمات وارتفاع الأسعار وغياب الرحمة من القلوب، هذا ما أكده “أبو حازم” ذو الـ 52 عاماً من سكان ريف دمشق، وأضاف: منذ بداية الشتاء أنا وعائلتي نتدفأ على الغاز المعروف بـ “السفير”، فنحن لا نملك أي وسيلة أخرى للحصول على الدفء، فالمازوت غير متوفر رغم رفع سعره، والحطب غالي الثمن وضار بالصحة كثيراً، حتى أن الاستغلال طال “سفير” الغاز وبات سعر تعبئته ألفي ليرة بعد أن كانت لا تتجاوز 900 ليرة، نملك جرتي غاز؛ واحدة فرغت والأخرى أبقيناها لقضاء حوائج الطبخ، مع تقنين شديد جداً في الاستهلاك، وأما الجرة الفارغة، فقد عانيت الأمرين لكي استبدلها ولم أستطع، فعلى مدار أسبوع كامل كنت في كل يوم فيه أنتظر في طابور المواطنين من الساعة 5 صباحاً إلى 12 ظهراً لكي أحصل على جرة غاز، ولم أستطع، حيث يأتي المسؤولون عن التوزيع (اللجان الشعبية ـ موظفي البلدية) ويوزعون الأسطوانات على أقاربهم، ويأخذون مايشاؤون لبيعها في السوق السوداء بأسعار وصلت إلى 5 آلاف ليرة.

وليست المآسي اليومية مقتصر على موضوع الغاز فالاحتياجات عديدة وأمام كل واحدة منها تقف عوائق لا تخطر على بال.

فمع “أبو أنس” كانت القصة مختلفة، فبعد أن استطاع الحصول على صهريج ماء ليملأ خزان منزله الفارغ منذ أسبوع عن طريق “واسطة” من أحد أقربائه في محافظة دمشق، فقد ذهبت جهوده أدراج الرياح، حيث تم إيقاف الصهريج في منتصف الطريق من قبل “اللجان الشعبية” وتم أخذ هوية سائق الصهريج وميكانيك الصهريج. وبالتالي تبخرت أحلام أبو أنس بملءِ خزان منزله من مياه الشرب.

 

 

أما “أبو نورس” فبعد العديد من الاتصالات والواسطات التي أجراها، استطاع أن يصل إلى صاحب صهريج الماء، إلا أن هذا الأخير طلب 25 ألف ليرة لكي يملأ له خزان منزله وسعته 1000 ليتر، الواقع في ركن الدين، متذرعاً بأن الصهريج أتى من خارج دمشق. وهو ما جعل “أبو نورس” يدخل في حسابات لا تنتهي ويقع في حيرة قبل اتخاذ القرار.

أما إذا تكلمنا على المازوت، فسعره بلغ حالياً في السوق السوداء 350 ليرة لليتر الواحد، وهو غير متوفر دائماً، فقد لفت “أبو نصر” الذي يملك مكنة تطريز إلى أنه مضطر لشراء المازوت من المتاجرين به بالسوق السوداء، لكي لا يتوقف عمله، وهو ما يضطره لدفع مبالغ كبيرة يرصدها لهذا الغرض.

هذه أمثلة حية عن أزمات متوالدة وهناك آلاف الأمثلة الواقعية عنها، ولكن وبعيداً عن تعداد بقية أشكال المعاناة فإن محورها واحد: تجار الأزمات، مصاصو دماء الشعب، الفاسدون، محدثو النعمة، أثرياء الحروب، المعفّشون، وتسمايتهم تكثر وتكثر.

باحث في الشؤون الاقتصادية رفض الكشف عن هويته بيّن في تصريح لصدى الشام أن هذه الطبقة باتت هي المسيطرة على كل المفاصل الخدمية في سوريا، والأغرب من ذلك، أن حكومة النظام هي من منحتهم هذه السلطة، رغم تجاوزاتهم العلنية، مشيراً إلى أن سبب ذلك يعود لغياب القانون وتطبيقه، فالقانون في سوريا أصبح ضمن الكتب فقط، حتى أنه لا ينفّذ في المحاكم، وعلا صوت الرصاص والتشبيح على صوت القوانين.

وأوضح الباحث أن طبقة أثرياء “الأزمة” توسعت كثيراً وباتت تمارس نشاطها علنياً، بل وأصبحت أكثر خبرة في الاستغلال، فدمشق مثلاً عانت من أزمة مياه، وسمعنا كثيراً عن المتاجرة بالمياه المعدنية، وقد وقعت حالات تسمم طالت الأطفال جراء شرب المياه الملوثة التي يتم بيعها في الأسواق دون رقيب.

وفي ظل هذا الوضع الخانق نجد أن معمل “بقين” تعطل فجأة وفق ما ذكرته الكثير من المواقع الإعلامية المحلية، وبالتالي تكتمل حلقة المتاجرة ويرتفع الطلب على الماء ويرتفع معه سعر العبوة، و ينطبق الأمر كذلك على صهاريج المياه التي استغلت هذه الأزمة وقامت برفع أجرها لمبالغ ضخمة، وأيضاً ينسحب الأمر على بائعي الغاز والمازوت، فسعر ليتر المازوت في السوق السوداء 350 ليرة ومتوفر، وسعر أسطوانة الغاز في السوداء 5 آلاف ليرة ومتوفرة، وهاتان السلعتان تباعان على الأرصفة وفي وضح النهار، وليس في الأقبية أي أن البائعين لا يخشون الجهات الرقابية إما لكونهم أعلى سلطة منهم كحال اللجان الشعبية، أو أنهم مدعومون من مسؤولين في النظام، وبالطبع لا يمكن لهذه الطبقة المتاجرة بقُوت الشعب أن تتوسع إلا إذا كانت حاصلة على أوامر بذلك، من داعميها، ومن يحمونها من المسؤولين الفاسدين وبعض رجال الأعمال الكبار في سوريا.

 

  تأثيرهم كان أكبر من “الحرب” نفسها

ولفت الباحث أن هؤلاء ومن يقف وراءهم حصدوا ثروات لا تقدر بأرقام، ولكي يقوموا بتبييض أموالهم، أي تحويلها إلى أموال شرعية، لجؤوا إلى أساليب عديدة أهمها شراء العقارات، فهي أسهل وسيلة لتبييض أموال أثرياء “الحرب”، كما قاموا بشراء السيارات الفارهة، والمتاجرة بها، وشراء الذهب، والأراضي، والمتاجرة بالعملة والدولار.

وأضاف الباحث الاقتصادي: طبقة أمراء “الحرب” وتجارها كان لها الأثر الأكبر على حياة المواطنين، ويمكن القول بأن أثرها كان أكبر من “الحرب” نفسها، فعندما يتم تعفيش المنزل الذي سَلِمَ من الدمار وأمام أعين مالكيه من قبل عصابات التشبيح، وعندما يتم تعفيش المعامل والمصانع وأمام أعين الصناعيين، وعندما يستغل المساعد في شعبة التجنيد حاجة الشاب لكي يؤجل لخدمة العلم مقابل مبلغ كبير، وعندما تصبح إزالة إسم من الاحتياط الخاص بالتجنيد تكلف الملايين، وعندما تحرق الغابات للحصول على المليارات، فكيف يمكن أن تتوقع حال المواطنين؟.

ونوه الباحث أخيراً إلى ضرورة التحرك لوقف نزيف الشعب الفقير في سوريا، ووضع حد لطبقة تجار “الحرب” من التوسع ومحاسبتها على العلن ومصادرة جميع أملاكها المنقولة وغير المنقولة، متسائلاً: هل الحكومات المتعاقبة في سوريا التفتت إلى ذلك؟ الجواب لا ولن تلتفت إلى هذا الأمر طالما أن النظام موجود.



صدى الشام