حسام ميرو يكتب: السُلطة والتطرف في العالم العربي


حسام ميرو

نادراً ما يشار إلى دور النظم السياسية في إنتاج التطرف في تحليل ظواهر التطرف الناعمة والخشنة، أي تلك المتصلة، بشكل مباشر أو غير مباشر، بالإرهاب، سواء الفكري أو المادي، حيث تنساق مجمل التحليلات نحو البنى المتطرفة، ومحاولة تحليل العلاقات الداخلية التي تحكم التنظيمات والجماعات الإرهابية، خصوصاً وأن هذا التحليل يحمل معه الكثير من التشويق، على الرغم من كونه لا يخدم كثيراً في معرفة الأسباب الحقيقية الكامنة وراء التطرف، ولا يخدم عملية فهم السياق التاريخي والسياسي لتحول التطرف إلى ظاهرة شبه راسخة في عالمنا العربي، بل وتمددها عبر أكثر من مستوى، ومنها المستوى المباشر، حيث يوجد المناخ السياسي الملائم الذي يسهم في مدّ التنظيمات الإرهابية بالمزيد من الكوادر البشرية.
إن جزءاً من عملية التبسيط في فهم التطرف يقع على عاتق الفاعلين الفكريين والإعلاميين، لكن مسؤولية هؤلاء الفاعلين ليست معزولة عن المناخ العام للحريات في العالم العربي، حيث غالباً ما يتم إغفال الأسباب الحقيقية للظواهر الاجتماعية، ويتم توجيه الأنظار نحو الفئات الاجتماعية التي تمثل الظاهرة، وتحميلها كامل المسؤولية عن الحال التي وصلت إليها، وكأن تلك الفئات الاجتماعية تعيش في عزلة تامة عن منطق الحياة العامة، والنظم السياسية التي تحكمها، وهي في عدد من الدول العربية أصبحت تعاني شره السلطة، على حساب الدور والفاعلية.
وإذا كان العقد الاجتماعي العربي يعاني حالة ثبات، نتيجة غياب ممكنات المشاركة السياسية، وتسخير النظم السياسية للجهاز البيروقراطي العام (أجهزة الدولة المختلفة) لخدمة مصالحه، وفي مقدمتها مصلحة الاستمرار في الحكم، فإن هذه الحال من تكلّس العقد الاجتماعي قد وأدت أمل الفئات الاجتماعية غير المستفيدة من السلطة ونظامها البيروقراطي في تغيير موقعها التاريخي، والحصول على امتيازات تناسب حجمها ومكانتها، وهذه الدوامة من اليأس الاجتماعي هي موعد مؤجل دائماً مع الانفجار، بانتظار اللحظة التاريخية المناسبة.
لقد كشفت مآزق بلدان ما يسمى «الربيع العربي»، والتي باتت لاحقاً مسرحاً للتنظيمات الإرهابية، ونمو التطرف، وما يستتبعه من انقسامات في البنيان الاجتماعي بين فئات البلد الواحد، أن النظام السياسي الاحتكاري، أكان نظاماً قائماً على طبقة حزبية معينة، أو على طبقة عسكرية، لا يمكن أن يمنع انفجار الأزمات الاجتماعية، كما أنه، حين اندلاعها، لا يمكن له أن يسيطر عليها، ولا على نتائجها، كما أنه غير قادر على ضبط ما ينشأ من عنف، والأسوأ من ذلك هو اللجوء إلى منطق العنف نفسه إلى معالجة أزمات وطنية كبرى.
ومنذ خمسينات القرن الماضي، حكمت بعض الدول العربية أنظمة قائمة على احتكار السلطة السياسية، وتمجيد الزعيم السياسي، وهو ما أدى إلى شخصنة مفهوم القيادة، ورفع الزعيم السياسي إلى مرتبة المخلّص، وربطه بالخلود، وهما صفتان مستمدتان من إرث تاريخي له جانب عقائدي، وقد استمرّت تلك النظم السياسية في الإمساك بزمام السلطة عبر وأد أي حراك سياسي داخلي، واعتقال معارضيها، والتنكيل بهم، وجعلهم عبرة لمن يفكر بعملية التغيير، وقد نشأت بفعل ذلك أجيال كاملة، لا تجد لها أي مكانة في عملية المشاركة السياسية، كما أنها مصابة بعقد الخوف من التعبير عن ذاتها، وما يخامرها من طموحات اجتماعية وسياسية.
وفي الجانب الاقتصادي، قامت دول ما يسمى «الربيع العربي» على نظام رأسمالية الدولة، أو الدولة الريعية، حيث اعتاشت تلك النظم على فائض الريع من دورها الوظيفي في الإقليم، كما في المثال السوري، الذي لعب بأوراق إقليمية عدة، مثل الورقة اللبنانية، والفلسطينية، والكردية، مع تقييد كبير لحركة السوق، والتي ارتبطت أكثر فأكثر بمؤسساته، وعلى الرغم من الفشل الذريع لهذا النمط الاقتصادي إلا أنه وفّر لتلك النظم القدرة على ضبط حركة المجتمع، ومنع ظهور قوى اقتصادية منافسة، يمكن لها أن تبلور في سياق نموها مشروعاً سياسياً مستقلاً.
وكنتيجة حتمية لهذا الطابع الاحتكاري للسلطة، فقد وصلت فئات اجتماعية واسعة إلى حالة غير مسبوقة من التهميش الذي طال بنيتها الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية، وأوجد لديها عنفاً كامناً، وهو العنف الذي أوجد تعبيراته، خلال مواجهة الانتفاضات الشعبية للنظم السياسية، مع عدم إغفال حالة الاستثمار الإقليمي والدولي لحالة العنف، وما ولّدته من تنظيمات متطرفة.
إن تحميل التاريخ أو فئات اجتماعية معينة وزر العنف والتطرف والإرهاب مسألة غير معرفية بالمطلق، وهي بمثابة تقديم صك براءة للنظم السياسية من مسؤوليتها التاريخية، ولا يستقيم فهم التطرف والإرهاب من دون فهم الأدوار المختلفة التي لعبتها النظم السياسية في وصول مجتمعاتنا إلى هذه الحال الكارثية من التطرف، وهذا الفهم هو مقدمة ضرورية، لكنها غير كافية، لمعرفة ممكنات التغيير في المستقبل، من أجل تجاوز ما هو أسوأ.

المصدر: الخليج

حسام ميرو يكتب: السُلطة والتطرف في العالم العربي على ميكروسيريا.
ميكروسيريا -


أخبار سوريا 
ميكرو سيريا